التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود

          ░42▒ (بَابُ: إِذَا زَوَّجَ ابنتَهُ وَهْيَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ).
          5138- (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبَدِ الرَّحْمَن بْنِ القَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن وَمُجَمِّعِ ابْنَي يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ: أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ الله صلعم فَرَدَّ نِكَاحَهُ).
          5139- (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى: أَنَّ القَاسِمَ بْنَ مُحمَّدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَن بْنَ يَزِيدَ وَمُجَمِّعَ بْنَ يَزِيَد حَدَّثَاهُ: أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِذَامًا أَنْكَحَ ابْنَةً لَهُ، نَحْوَهُ).
          الشَّرح: هذا الحديث مِنْ أفراده، وقد ذكره أيضًا في ترك الحيل [خ¦6969] والإكراه [خ¦6945]، بل لم يخرج مسلمٌ عن خنساء في «صحيحه» شيئًا، ومِنْ أوهام ابن القَطَّان عزوه إلى مسلمٍ، فاحذره.
          و(إِسْحَاقُ) هذا هو ابنُ منصورٍ كما صرَّح به في باب: شهود الملائكة بدرًا، نبَّه عليه الجَيَّانيُّ بعد أن قَالَ: لم أجده منسوبًا لأحدٍ، و(خَنْسَاءَ) بالخاء المعجمة والمدِّ، واسمُها زينب (بِنْتِ خِذَامٍ) بالخاء والذال المعجمتين، ابنِ خالدٍ، ولقبه مَطروف، ابنِ الحارث بن زيد بن عُبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، كانت تحتَ أُنَيس بن قَتادة بن ربيعة بن خالد مطروفٍ، قُتل عنها يوم أُحدٍ، وقد كان شهد بدرًا، زوَّجها أبوها رجلًا فخُطبت إلى أبي لبابة بشير بن عبد المنذر بن رفاعة بن زَنْبرٍ _بفتح الزَّاي وجزم النُّون_ ابن زيد بن أميَّة بن زيد بن مالك بن عوفٍ، فكرهت الرَّجل وتزوَّجت أبا لبابة، فوُلد له السَّائب، روى ذَلِكَ ابن إسحاق عن الحجَّاج بن السَّائب عن أبيه عن جدَّته خنساء.
          وجاء في روايةٍ لأبي موسى المدينيِّ في كتابه تسميتُها رَبْعَة بدل خنساء، واستغربَه، وفي روايةٍ: أمُّ رَبْعَة، ولعلها كنيةٌ، وكان خِذَامٌ مِنْ أهل مسجد الضِّرار، ومِنْ دارِه أُخرج، والَّذي بنى المسجد وكان رأس أهله هو جارية _بالجيم_ بن عامر بن مُجمِّع بن العطَّاف بن ضُبَيعة بن زيد بن مالك بن عوفٍ، وكان معه ولده مُجَمِّعٌ وزيدٌ ويزيد وبُكَيرٌ، وابن أخيه بِجَاد بن عثمان بن عامرٍ، وعبد الله بن نَبْتَل بن الحارث بن قيس بن زيد بن ضُبَيْعة وعبد الرَّحْمَن بن يزيد بن جارية أخو عاصم بن عمرَ بن الخطَّاب لأمِّه جميلة بنت ثابتٍ، أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح قيسِ بن عصمة بن مالك بن أميَّة بن ضُبَيعة حَمِيِّ الدَّبْرِ، وُلدتهما في حياة رسول الله صلعم، وولَّى عمر بن عبد العزيز عبد الرَّحْمَن بن يزيد قضاءَ المدينة في إمرته عليها، روى له التِّرْمِذيُّ والنَّسَائيُّ وابن ماجَهْ، وروى لأخيه مُجَمِّعِ بن يزيد البُخاريُّ وأبو داود والنَّسَائيُّ وابن ماجه، وروى لابن أخيها مجمِّعِ بن يحيى بن يزيد بن جارية مسلمٌ والنَّسَائيُّ، ومِنْ عَقِب يزيد بن جارية أيضًا أبو زيدٍ مُحمَّد بن زيد بن إسحاق بن عبد الرَّحْمَن بن يزيد بن جارية، ولي قضاء المدينة، ومنهم: مُجمِّع بن يعقوب بن مُجمِّع بن يزيد بن جارية، كان فقيهًا، وأَمَّ بني عمرو بن عوف نحوًا مِنْ ثلاثين سنةً حتَّى مات، روى له أبو داود والنَّسَائيُّ، وروى لأبيه يعقوبَ أبو داود أيضًا، وروى لابن عمِّه إبراهيمَ بن إسماعيل بن مُجمِّع بن يزيد مسلمٌ والنَّسَائيُّ، وابنُه عبد الرَّحْمَن بن مجمِّعٍ، ومنهم: إسماعيل بن ثابت بن إسماعيل بن مجمِّع بن يزيد، كان في صحابة المهديِّ والرَّشيد حتَّى مات، وعاصمُ بن سُويد بن عامر بن يزيد بن جارية، كان له فضلٌ وشرفٌ، وكان / إمامَ بني عمرٍو بعد مجمِّع بن يعقوب.
          ومِنْ بني ضُبَيعة أيضًا: أبو حنيفة بن الأزعر بن زيد بن العَطَّاف بن ضُبَيعة مِنْ أهل مسجد الضِّرار.
          فصلٌ: روى ابن ماجَهْ هذا الحديث عن أبي بكر بن أبي شَيبة عن يزيد عن يحيى كما سلف، لكن بلفظ: فكرهَتْ نكاحَ أبيها، فأتت النَّبِيَّ صلعم فذكرَتْ ذَلِكَ له، فردَّ عليها نكاحَ أبيها، فنكحتْ أبا لبابة بن عبد المنذر، وقال الإسماعيليُّ: رواه شُعبة عن يحيى عن القاسم مرسلًا، قَالَ: فأتت رسول الله صلعم فقالت: إن أبي زوَّجني وأنا كارهةٌ، وأنا أريد أن أتزوَّج عمَّ ولدي، قَالَ: فنزعَها رسول الله صلعم، فتزوَّجت عمَّ ولدها. قَالَ يحيى: وهي خنساء بنت خِذَامٍ، قَالَ: وكذلك قَالَ معمرٌ وابن عُيَيْنة: وهي ثيِّبٌ، فأرسلوه، وعند أحمد مِنْ حديث ابن إسحاق عن الحجَّاج بن السَّائب بن أبي لُبابة بن عبد المُنْذر أنَّ جدَّته أمَّ السَّائب خُنَاس بنت خِذَام بن خالدٍ كانت تحت رجلٍ قبلَ أبي لُبابة فتأيمت منه، فزوَّجها أبوها رجلًا مِنْ بني عَمرو بن عَوف بن الخزرج، وأبت أن يخطبَها إلا إلى أبي لبابة، وأبى أبوها إلَّا أن يُلزمَها العَوفيَّ حتَّى ارتفع أمرُها إلى رسول الله صلعم، فقال: ((هِي أَولى بأمرها))، فألحقَها بهواها فانتُزعتْ مِنَ العَوفيِّ وتزوَّجت أبا لُبابة، فولدت له أبا السَّائب.
          وقال أبو عمرَ: روى مالكٌ هذا الحديث فقال فيه: وهي ثيِّبٌ، في أبي داود والترمذي والبخاري، ورواه غيره فجعله مِنْ بلاغ يحيى بن سعيدٍ، كذا ذكره ابن أبي شَيبة، وروى ابن عُيَيْنة هذا الحديث فلم يذكر فيه: وكانت ثيِّبًا، رواه الحُمَيديُّ وغيره عنه ولم يقم إسناده، وقال فيه: قَالَ بعض أصحاب عبد الرَّحْمَن: إنَّها كانت ثيِّبًا، وحديث ابن إسحاق يدلُّ عَلَى صحَّة رواية مالكٍ.
          قَالَ أبو عمرَ: وكانت خنساء هذِه تحت أنس بن قتادة، ويُقال: أنيسٌ، وهو أصحُّ، وقُتل عنها شهيدًا كما سلف، قَالَ: وكانت أسديَّةً، قُلْتُ: أهلُ النَّسب ذكروها في الأنصار، اللَّهمَّ إلَّا أن يذكروها أسْديَّة _ساكنة السِّين_ فيوافق، ورواه كرواية مالكٍ ابنُ فُضَيلٍ عن يحيى بن سعيدٍ عند الدَّارَقُطْنيِّ، ومِنْ رواية شجاع بن مَخْلدٍ عن هُشَيمٍ: حَدَّثنا عمرو بن أبي سَلَمة، حَدَّثنا أبو سَلَمة: أنَّ خنساء زوَّجها أبوها وهي ثيِّبٌ، قَالَ هُشيمٌ: وحَدَّثنا عمر عن أبيه عن أبي هريرة به.
          وقال ابن أبي حاتمٍ: سألت أبي عن حديثٍ رواه الوليد بن مسلمٍ عن شَيبان عن يحيى بن أبي كَثيرٍ عن أبي هريرة: أنَّ رجلًا أنكحَ ابنتَه عَلَى عهد رسول الله صلعم ثيِّبًا، فكرهَتْ ذَلِكَ، فذكرتْ ذَلِكَ لرسول الله صلعم، فقال لها: ((نَهَيْتِيهِ أنْ يُزوِّجَك؟)) قَالَت: نعم، فجعل أمرَها بيدها، فردَّته، فقال أبي: لا يواصلون هذا الحديث يقولون: أبو سلمة عن النَّبيِّ صلعم مرسلًا، وهو أشبه.
          قَالَ أبو عمر: وإذا كانت ثيِّبًا كان حديثًا مجتمَعًا عَلَى صحَّته والقول به لأنَّ القائلين: لا نكاح إلَّا بوليٍّ، يقولون: إنَّ الثَّيِّب لا يزوِّجها أبوها ولا غيره مِنْ أوليائها إلَّا بإذنها، ومَنْ قَالَ: ليس للولِّي مع الثَّيِّب أمرٌ فهو أحرى باستعمال هذا الحديث، وكذلك الَّذين أجازوا عقد النِّكاح بغير وليٍّ.
          قلت: وروى النَّسَائيُّ مِنْ حديث الثَّوْريِّ عن عبد الرَّحْمَن بن القاسم عن عبد الله بن يزيد عن خنساء بنت خِذامٍ قالت: أنكحني أبي وأنا كارهةٌ وأنا بِكرٌ، فشكوت ذَلِكَ إلى رسول الله صلعم فقال: ((لَا تُنكِحْها وهي كارهةٌ))، وعزاها عبد الحقِّ إلى أبي داود أيضًا، وليس كذلك، فالَّذي فيه كما في البُخاريِّ، وقد يُجاب عن هذِه الرِّواية بأنَّه يجوز أن يكون الرَّاوي أخبر بما شاهد مِنَ العقد عليها وأخبرت هي بحقيقة الأمر، وهو عدم الدُّخول بها.
          فصلٌ: جاء في روايةٍ أنَّها قالت: يا رسول الله، ابن عمَّ ولدي أحبُّ إليَّ منه _يعني أبا لبابة_ وذلك مجازٌ لأنَّها إذا نكحت عمَّهم جمعت شملَهم.
          فصلٌ: قد جاءت أحاديث بمثل حديث خنساء، منها:
          حديث عطاءٍ عن جابرٍ: أنَّ رجلًا زوَّج ابنتَه بكرًا ولم يستأذنها، فأتت رسولَ الله صلعم ففرَّق بينهما، خرَّجه النَّسَائيُّ وقال: الصَّحيح إرساله والأوَّل وهمٌ، وأَفهمَه كلام الإمام أحمد فيما حكاه الأثرم عنه.
          ومنها: أنَّ ابن عمر تزوَّج ابنة خاله، وأنَّ عمَّها هو الَّذي زوَّجها... الحديث، وفيه: فأتت رسول الله صلعم فردَّ نكاحها، أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ وقال: لا يثبت عن ابن أبي ذئبٍ عن نافعِ، والصَّواب حديث ابن أبي ذئبٍ عن عمر بن حسينٍ.
          ومنها: حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ جاريةً بِكرًا أنكحها أبوها وهي كارهةٌ، فخيَّرها رسول الله صلعم، رواه أبو داود بإسنادٍ عَلَى شرط الشَّيخين، قَالَ أبو داود: والصَّحيح مرسلٌ، وقال أبو حاتمٍ: رفعُه خطأٌ، وأمَّا ابن القَطَّان فصحَّحه، وقال ابن حَزْمٍ: إسناده صحيحٌ في غاية الصِّحَّة، ولا معارِض له.
          ومنها: حديث عائشة ♦ أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ، وذكره النَّسَائيُّ في باب: البكر يزوِّجها أبوها.
          فصلٌ: اتَّفق أئمَّة الفتوى بالأمصار عَلَى أنَّ الأب إذا زوَّج ابنته الثَّيِّب بغير رضاها أنَّه لا يجوز، ويُردُّ احتجاجًا بحديث خنساءَ وغيره، وشذَّ الحسن البصريُّ والنَّخَعيُّ فخالفا الجماعة، فقال الحسن: نكاحُ الأب جائزٌ عَلَى ابنته بكرًا كانت أو ثيِّبًا كرهت أو لم تكره. وقال النَّخَعيُّ: إن كانت الثَّيِّب في عياله زوَّجها ولم يستأمِرْها، وإن لم تكن في عياله أو كانت نائيةً عنه استأمرَها، ولم يلتفت أحدٌ مِنَ الأئمَّة إلى هذين القولين لمخالفتهما السُّنَّة الثَّابتة في خنساءَ وغيرها، وما خالفها فمردودٌ.
          واختلف الأئمَّة القائلون بحديث خنساء؛ إن زوَّجها بغير إذنها ثُمَّ بلَّغها فأجازت، فقال إسماعيل القاضي: أصل قول مالكٍ لا يجوز وإن أجازته، إلَّا أن يكون بالقرب كأنَّه في فورٍ، ويبطل إذا بعد لأنَّ عقده عليها بغير أمرها ليس بعقدٍ، ولا يقع فيه طلاقٌ، وقال الكوفيُّون: إذا أجازته جاز، وإذا أبطلته بطل، وقال الشَّافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ: إذا زوَّجها بغير إذنها فالنِّكاح باطلٌ وإن رضيت، لأنَّه ◙ ردَّ نكاحَ خنساء ولم يقل: إلَّا أن تجيزَه، واستدلَّ به الشَّافعيُّ عَلَى إبطال النِّكاح الموقوف عَلَى إجازة مَنْ له الإجازة، وهو أحد قولي مالكٍ، وقد يُقال: محلُّه إذا رضيتْ دون ما إذا كرهتْ.
          واستدلَّ الخَطَّابيُّ به عَلَى أبي حنيفة في قوله: لا تزوَّج البكر البالغ إلَّا برضاها، وذلك أنَّ الثُّيوبة إنَّما ذُكرت هنا ليُعلم أنها علَّة الحكم، فدلَّ أن حكم البكر بخلاف ذَلِكَ، وهذا يأتي على روايةٍ أنَّها ثيِّبٌ، دون رواية أنَّها بكرٌ.