التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب العزل

          ░96▒ (بَابُ العَزْلِ)
          5208- 5209- ذكر فيه حديثَ جابرٍ ☺: (كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلعم)، وفي لفظٍ: (كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ)، وفي لفظٍ: (كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ).
          5210- وحديثَ الزُّهْرِيِّ عن ابنِ مُحَيْرِيزٍ عن أبي سَعِيدٍ: (أَصَبْنَا سَبْيًا فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلعم فقال: أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ _قَالَهَا ثَلاَثًا_ مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ).
          الشَّرح: هذان الحديثانِ أخرجَهما مُسْلمٌ، ولفظُهُ في الأوَّلِ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلعم، ولو كان ينهى عنهُ لنهانا عنه القرآنُ. وفي لفظٍ: فَبَلَغَ ذلك النَّبِيَّ صلعم فلم يَنْهَنَا. وفي لفظٍ: سأل رجلٌ رسولَ الله صلعم فقال: إِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، فَقَالَ ◙: ((إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ شَيْئًا أَرَاَدُه اللهُ)) قَالَ: فجَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إنَّ الجاريةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ حَبِلَتْ، فَقَالَ ◙: ((أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولِهِ))، وفي لفظٍ: إِنَّ لي جَارِيَةً هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَن تَحْبَلَ، فَقَالَ: ((اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيْهَا مَا قُدِّرَ لَهَا)) فَلَبَثَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ، فَقَالَ: ((قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنْ سَيَأْتِيْهَا مَا قُدِّرَ لَهَا)).
          وللنَّسائيِّ: كانَ لنَا جَوَارِي وكُنَّا نَعْزِلُ عَنْهُنَّ، فَقَالَتِ الْيَهُوْدُ: إِنَّ تِلْكَ الْمَوْؤُوْدَةُ الصُّغْرَى، فَسُئِلَ رَسُولُ الله صلعم عَنْ ذَلِكَ فقالَ: ((كَذَبَتِ الْيَهُودُ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ ╡ أَنْ يَخْلُقَهُ لَمْ تَسْتَطِعْ رَدَّهُ))، ولأبي قُرَّةَ السَّكْسَكِيِّ: ذكر المثنَّى بن الصَّبَّاح، عن عَطَاءٍ، عن جابرٍ ☺: أنَّهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله صلعم إذا أَذِنَتِ الحرَّة، وأمَّا الأَمَةُ فيعزِلُ عنها.
          ولفظ مُسْلمٍ في الثاني: ((مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيءٌ))، وفي لفظٍ: ((مَا كَتَبَ اللهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا سَتَكُونُ))، ولأحمد: ((أَنْتَ تَخْلُقُهُ؟ أَنْتَ تَرْزُقُهُ؟ أَقِرَّهُ قَرَارَهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقَدَرُ))، وفي لفظٍ: إنَّ اليَهُود تُحدِّثُ أنَّ العزلَ موؤودةُ الصُّغرى، قال النَّبيُّ صلعم: ((كَذَبَتِ اليَهُودُ، ولَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ))، وللتِّرمذيِّ: ولم يقلْ: ولا يفعل ذلك أحدكم.
          وللنَّسائيِّ مِن حديثِ محمَّد بن يَحيى، عن ابن مُحَيْرِيزٍ أنَّه سمع أبا صِرْمَةَ وأبا سعيدٍ الخُدريَّ يقولان: أَصَبْنَا سَبَايا.. الحديث، والَّذي في مُسْلمِ: أنَّ أبا صِرْمَةَ سأل أبا سعيدٍ وابنُ مُحَيْرِيزٍ يسمعُ، وهو المحفوظ. وفي روايةٍ: أَصبنا سَبَايا في غزوة بني المُصْطلق، وهي الغزوة الَّتي أصاب فيها رسولُ الله صلعم جُوَيْرِيَةَ، وقد سلف هذا الحديث.
          وللكَجِّيِّ: أنَّ رجلًا مِن أشْجَعَ سأل رسولَ الله صلعم فقال: إنَّ امرأتي تُرضِعُ، وأنا أكرَه أن تحملَ، أفأعزلُ عنها؟ قال: ((ما قُدِّرَ في الرَّحمَ سيكُونُ)).
          وقال محمَّدُ بن عبد الرَّحمن الأنصاريُّ شيخُ أيُّوب: قوله: ((لا عَليكُم أنْ لَا تَفعَلُوا)) أقرب إلى النَّهي. وقال الحسن البصريُّ: والله لكأنَّ هذا زجرٌ. وفي لفظٍ: أنَّه ◙ سُئِل عن العزْلِ ما هو؟ فلمَّا أخبره قال: ((لَا عَليكُمْ أنْ لا تفعلُوا ذَاكُمْ)).
          وفي «المُصَنَّف»: قال أبو سعيدٍ: ابنتي هذه الَّتي في الخِدْرِ مِن العَزْلِ.
          وفي الباب أيضًا أحاديثُ: أحدُها: حديثُ عامر بن سعدٍ أنَّ أسامةَ بن زيدٍ أخبر والده: أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلعم فقال: إنِّي أَعزلُ عن امرأتي، فقال: ((لِمَ تَفعَلُ ذَلكَ؟)) قال الرَّجل: أُشفِقُ على ولَدِها، فقال ◙: ((لَوْ كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ)). وعزاه عبدُ الحقِّ إليه مِن طريق سعد بن أبي وقاصٍ، وليس ذلك فيه، وأقرَّه ابنُ القطَّان، ووقع في «سنن الكَجِّيِّ» مِن حديثِ حيوة، عن عيَّاشٍ، عن أبي النَّضر، عن عامِرٍ: سمعتُ أسامةَ بن زيدٍ يحدِّث عن والده _أو قال: يحدِّث والده شكَّ عيَّاش بنُ عبَّاسٍ_ أنَّ رجلًا سأل... الحديث.
          ثانيها: حديثُ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ مرفوعًا: ((إنَّه الوَأْدُ الصَّغيرُ الخَفِيُّ)) أخرجه مسلمٌ، أسلمت جُدامَة قبل الفتح أو عامَهُ.
          ثالثها: حديثُ أنس بن مالكٍ مرفوعًا: ((لَو أنَّ المَاءَ الَّذي يكونُ مِنْه الولَدُ أهْرَقْتَهُ على صَخرةٍ، لأَخرجَ الله ╡ _أو لَيَخْلُقَنَّ اللهُ_ نفسًا هُو خَالِقُها)) رواه أحمد.
          رابعها: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ ☺: سُئِلَ رسولُ الله صلعم عن العَزلِ، وقيل: إنَّ اليَهُود تزعمُ أنَّها المَوؤودة الصُّغرى، فقال: ((كَذبَتْ يهُودُ، لو أرادَ اللهُ خَلْقًا لمْ تستطِعْ عَزلهَا)) رواه النَّسائيُّ.
          خامسُها: عن القاسم بن حسَّانَ، عن عمِّه عبد الرَّحمن بن حَرْمَلَةَ، عن ابن مسعودٍ ☺: كان ◙ يَكْره عشرةَ خِلالٍ، فذكرها وفيه: ((وَعَزلُ الماءِ لغيرِ مَحِلِّه))، أخرجه النَّسائيُّ. قال البخاريُّ: عبد الرَّحمن هذا لم يصحَّ حديثه، وأدخله البخاريُّ في الضُّعفاء، وقال عليٌّ: في إسناده مَن لا يُعرف، ولا نعرفُه في أصحاب ابن مسعودٍ، وقال أبو حاتِمٍ: ليس بحديث عبد الرَّحمن بأسٌ، يحوَّلُ مِن كتاب «الضُّعفاء». وقال ابن عَدِيَّ: قول البخاريِّ: لم يصحَّ حديثه، يعني أنَّ عبد الرَّحمن لم يسمع مِن ابن مسعودٍ، وأشار إلى حديثٍ واحدٍ. وكذا قال الخطيب في «المتَّفق والمفترق»: ليس له إلَّا حديثٌ واحدٌ. وأمَّا ابن حبَّان فذكرَه في «ثقاته» وخرَّج حديثَه في «صحيحه»، واستدركَه الحاكمُ وقال: صحيحُ الإسناد. وقال ابنُ حزمٍ: صحيح، وكذا صحَّ عن زيد بن ثابتٍ وابن عبَّاسٍ وسعدٍ رواية الإباحة.
          وفي «سؤالات أبي داود»: سمعتُ أبا عبد الله، وذكرَ حديث ابن لَهِيعَةَ، عن جَعْفَرِ بن رَبيعَةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن المُحَرَّرِ بن أبي هُرَيْرَةَ، عن أبيهِ رفعَه: ((لا يُعزَلُ عَنِ الحُرَّةِ إلَّا بإذْنِها))، فقال: ما أنكرَه! وأخرجه ابن ماجه مِن هذا الوجه بزيادة عُمَر، وقال الدَّارقطنيُّ: تفرَّد به إِسْحَاقُ بن عِيسَى الطَّبَّاعِ، عن ابن لَهِيعَة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزُّهريِّ به، ووَهَم فيه، وخالفَه عبد الله بن وَهْبٍ فرواه عن ابن لَهِيعَة، عن جَعْفَرٍ، عن الزُّهريِّ، عن حَمْزَةَ بن عبد الله بن عُمَر، عن أبيه، عن عُمَرَ، ووَهَم أيضًا، والصَّواب: مرسلٌ عن حَمْزَةَ، عن عُمَرَ، ليس فيه: عن أبيه. وقال أبو حاتِمٍ: حدَّثنا أبو صالحٍ كاتب اللَّيثِ، عن ابن لَهيعَة، عن جَعْفَرٍ، عن حَمْزَةَ، عن أبيه، عن عُمَرَ، قال: وهو أصَحُّ، / وهذا مِن تخاليط ابن لَهِيعَة.
          وأخرجه ابن أبي شَيْبَة مِن حديثِ مِنْدَل بن عليٍّ، عن جَعْفَرِ بن أبي المغيرة، عن عبد الله بن أبي الهُذَيْلِ، عن جريرٍ قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلعم فقال: يا رسولَ الله، ما خَلَصْتُ إليكَ من المٌشركينَ إلَّا بِقَيْنَةٍ، وأنا أعزلُ عنها أُريدُ بها السُّوقَ، فقال ◙: ((جَاءَهَا مَا قُدِّرَ)).
          ومِن حديثِ عبد الله بن مُحَيْرِيزٍ قال: انطلقتُ أنا وأبو صِرْمَةَ المازني فوجدنا أبا سعيدٍ يُحدِّث كما يُحدِّث أبو سَلَمَةَ وأبو أُمَامة: عن رسولِ الله صلعم قال: ((كَذَبَتْ يَهُودُ))، وقال في آخره: ((ومَا عليكُم أنْ لَا تَفعلُوا، وقد قدَّرَ الله ما هُو خالقٌ إلى يومِ القيامةِ)).
          وفي «سؤالات مُهَنَّا»: سألتُ أحمدَ عن حديث هِشَامٍ الدَّسْتُوائيِّ، عن يَحيى بن أبي كثيرٍ، عن سَوَّارٍ الكوفيِّ، عن ابن مسعودٍ ☺ أنَّه قال: يَعزِلُ الرَّجُلُ عن أمَتِه، ولا يَعزلُ عن الحُرَّة إلَّا بإذنِها. فقال: كان يزيدُ يرويه عن هِشَامٍ، قلتُ: مَن سَوَّارٌ هذا؟ قال: لا أدري، قلتُ: بَلَغَني عن يحيى بن سعيدٍ أنَّه كان يقول: هذا الحديث شِبهُ لا شيءَ، فقال أحمدُ: كذاك هو.
          وقال عبد الله بن أحمدَ: قرأتُ على أبي، عن وَكِيعٍ، عن سُفْيَان، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقِيلٍ، عن جُمَانة _أو أنَّ جُمَانة سَرِيَّة عليِّ بن أبي طالبٍ_ قالت: كان عليٌّ يعزل عنَّا، فقلنا له، فقال: أُحيي شيئًا أماتَه الله.
          وفي «المصنَّف» بسندٍ صحيحٍ: أنَّ عليًّا ☺ قال: العزْلُ الوأدُ الخَفيُّ. وعن عِكْرمةَ أنَّ زيدَ بن ثابتٍ وسعد بن أبي وقَّاصٍ كانا يعزلان، وحكاه أيضًا عن رَافِع بن خَدِيجٍ وخَبَّابِ بن الأَرَتِّ وأبي أيَّوب الأنصاريِّ وأُبيِّ بن كعبٍ وعليِّ بن حُسَينٍ وعَلْقَمَةَ وأصحابِ عبد الله، وأنسٍ والحسنِ بن عليٍّ وابنِ مُغَفَّلٍ وابنِ عبَّاسٍ، وسُئِل عنه بن المسيِّب فقال: هُو حَرثُكَ إنْ شِئتَ أعطشْتَه، وإنْ شِئتَ أرويتَه، وكذا قاله عِكْرَمةُ، وقال الحسنُ: اختلَفَ فيه الصَّحابةُ.
          إذا تقرَّر ذلك، فقد اختلف السَّلف في العزل، فذكر مالكٌ في «الموطَّأ» عن سعد بن أبي وقَّاصٍ وأبي أيَّوب الأنصاريِّ وزيد بن ثابتٍ وابن عبَّاسٍ أنَّهم كانوا يعزلون، وذكرَه ابنُ المنذر عن عليٍّ وخبَّاب بن الأرتِّ وجابِرٍ وقال: كُنَّا نفعله على عهد رسول الله صلعم، ورُوي ذلك عن جماعةٍ مِن التَّابعين منهم ابن المسيِّب وطَاوُسٌ، وبه قال مالكٌ والكوفيُّون والشَّافعيُّ وجمهور العلماء، وكرهَتْه طائفةٌ، ذكره ابن المُنذرِ عن الصِّدِّيق والفاروق وعُثْمَانَ، وعن عليٍّ روايةٌ أخرى، وعن ابن مسعودٍ وابن عُمَر وشدَّد فيه، وقال أبو أُمَامة: ما كنتُ أرى أنَّ مسلمًا يَصْنعُه، وقال سالمٌ: هي الموؤودة، وكرهَه إبراهيم أيضًا.
          حُجَّة الجمهور الأحاديث السَّالفة، ورُوي أيضًا عن أبي الزُّبير عن جابرٍ: أنَّه ◙ أَذِنَ فيه، ولا يُفهم مِن قوله: ((أَوَتَفْعَلُونَ ذَلِك؟)) إلَّا الإباحة، وهو خِلافُ ما أسلفناه عن الأنصاريِّ، نعم يشهد آخر الحديث: (ما مِنْ نَسَمَةٍ...) إلى آخره للإباحة، يقول: قد فَرَغَ مِن الخلقِ، فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن قدِّر أن يكون ولد لم يمنعه عزلٌ؛ لأنَّه قد يكون مِن العزل إفضاء بقليل الماء الَّذي قدَّر اللهُ أن يكون منه الولد، وقد يكون الاسترسال والإفضاء ولا يكون ولدٌ، فالعزل أو الإفضاء سواءٌ في أن لا يكون منه ولدٌ إلَّا بتقدير الله.
          واحتجَّ مَن كرهه بحديث جُدَامة بنتِ وَهْبٍ الأَسديَّة السَّالفِ، وأنكره الأوَّلون، ورَووا عن رسول الله صلعم إنكارُ ذلك. وحديثُ أبي سعيدٍ السَّالف فيه إكذابُ مَن زعم أنَّه موؤودةٌ، وقد رُوي عن عليٍّ دفعُ ذلك والتَّنبيهُ على فساده بمعنًى حسنٍ لطيفٍ؛ روى اللَّيثُ عن مَعْمَرِ بن أبي حَبِيبة، عن عُبيد الله بن عَدِيِّ بن الخِيَارِ قال: تذاكرَ أصحابُ رسول الله صلعم عند عُمرَ العَزْلَ، فاختلفوا فيه، فقالَ عمرُ: قد اختلفتُم أنتم، وأنتم أهلُ بدرٍ الأخيار، فكيف بالنَّاس بعدَكُم؟ فقال عليٌّ: إنَّها لا تكون موؤودةً حتَّى تمرَّ بالتَّاراتِ السَّبعِ، قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية [المؤمنون:12]، فعَجِبَ عُمَر مِن قوله، وقال: جزاك الله خيرًا. فأخبر عليٌّ أنَّه لا يُوأد إلَّا مَن قد نُفِخَ فيه الرُّوح قبل ذلك، وما لم يُنفخ فيه الرُّوح فهو مواتٌ غيرُ موؤودٍ. وروى سُفْيَانُ عن الأعمش عن أبي الوَدَّاكِ: أنَّ قومًا سألوا ابنَ عبَّاسٍ عن العزل، فذكرَ مثلَ كلامِ عليٍّ سواءً، فهذا عليٌّ وابنُ عبَّاسٍ قد اجتمعا على ما ذكرنا، وتابعَهما عُمَرُ ومَن كان بحضرته مِن الصَّحابة، فدلَّ على أنَّ العزلَ غيرُ مكروهٍ.
          وذهب مالكٌ وجمهور العلماء إلى أنَّه لا يَعزِلُ عن الحرَّة إلَّا بإذنها، فإن مَنَعَت زوجَها لم يَعْزل، وحكاه ابنُ بطَّالٍ عن الشَّافعيِّ، ومشهور مذهبه الجواز مِن غير توقُّفٍ على إذنها مع الكراهة، وقطع الرَّافعيُّ والنَّوويُّ بالجواز في الأَمَةِ، والخلافُ فيه حكاه الرُّويَانِيُّ في «البحر».
          واختلفوا في العزل عن الزَّوجةِ الأَمَة، فقال مالكٌ والكوفيُّون: لا يعزل عنها إلَّا بإذن سيِّدها، وقال الثَّوريُّ: لا يَعزِلُ عنها إلَّا بإذنها، وقال الشَّافعيُّ: لا يَعزِلُ عنها دونَ إذنها، ودون إذن مولاها، كذا حكاه ابن بطَّالٍ عنه، وهو غريبٌ، فمذهبُنا لا تحريم فيها، وحاصل مذهبنا أنَّه خِلاف الأولى، وأطلق بعضُهم الكراهةَ في كلِّ حالٍ وكلِّ امرأةٍ سواء رضيت أم لا، وأمَّا التَّحريم فلا يحرُمُ في مملوكته، ولا في زوجته الأَمَةِ سواءٌ رضيتا أم لا؛ لِمَا عليه في ذلك مِن الضَّرر، وأمَّا الحرَّة فإن أَذِنت لم يحرُم، وإلَّا وجهان: أصحُّهُما: لا، والحاصلُ أربعةُ أقوالٍ: الإباحة مطلقًا، والحُرْمة مطلقًا، والجواز بالإذن، والحُرمة في الحرَّة. وجمع ابن التِّين في المسألة أربعةَ أقوالٍ عندهم: يعزل حرَّةً كانت أو أمةً، يقابله: يعزل في الأَمَةِ دون الحرَّة، في السُّرِّيَّة برضاها، وفي الأمة المُزوَّجة برضا سيِّدها، وهو قول مالكٍ.
          وأغربَ ابنُ حزمٍ فقال: لا يحِلُّ العزلُ عن حرَّةٍ ولا عن أَمَةٍ، برهان ذلك حديث جُدامةَ قال: وهو في غاية الصِّحَّة، واحتجَّ مَن أباحه بخبر أبي سعيدٍ الَّذي فيه: ((لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا)) قال: وهذا إلى النَّهي أقربُ، وكذلك قاله ابنُ سيرينَ، واحتجُّوا بتكذيب رسول الله صلعم قولَ يَهُودَ، وبأخبارٍ أُخرَ لا تصحُّ، ويُعارضها كلَّها خبرُ جُدَامَة، وقد علمنا بيقينٍ أنَّ كلَّ شيءٍ أصلُه الإباحة حتَّى ينزل التَّحريم، فصحَّ أنَّ خبر جُدَامَة بالتَّحريم هو النَّاسخُ لجميع الإباحات المُتقدَّمة الَّتي لا شكَّ أنَّها قبل البعثِ وبعد البعثِ، قال: وهذا أمرٌ بيقين لأنَّه إذا أخبر ◙ أنَّه الوأدُ الخفيُّ، والوأدُ محرَّمٌ، فقد نسخَ الإباحةَ المُتقدِّمةَ وبطلَ قولُ مَن ادَّعى غيرَه.
          وأمَّا الطَّحاويُّ فإنَّه عكسَ هذا وقال: يحتملُ أنَّ خبرَ جُدَامَةَ لَمَّا كان على النَّاس موافقةُ أهل الكتاب ما لم يُحدِث الله ناسخه، ثمَّ إنَّ اللهَ أعْلَمَه بكذبهم، وأنَّ الأمر في الحقيقةِ بخلافِ ذلكَ، فأعلم أُمَّتَه بكذبهم / وأباح العزلَ على ما في حديث أبي سعيدٍ، وأنَّ الله إذا أراد شيئًا لا يمكن وقوع غيرِه.
          وبمعناه قاله أبو الوليد ابن رُشدٍ، وقال ابن العربيِّ: خبر جُدَامةَ مضطرِبٌ، وقد قال قومٌ: إنَّ ذلك كان قبل أنْ يبيِّن اللهُ له جوازَ ذلك، فكان يتَّبع اليَهُودَ فيما لم يتبيَّن له فيه شرعٌ، وهذا سقطٌ عظيمٌ؛ فإنَّه إنَّما كان يُحبُّ موافقتَهم فيما لم ينزل عليه فيه شيءٌ ممَّا لم يكن مِن كذبهم وتبديلهم، وقد صرَّح هنا بتكذيبِهم، فكيف يصحُّ أن يكون معهم على كذبِهم ويخبرَهم به ثمَّ يكذِّبَهم فيه؟! هذا محالٌ عقلًا، لا يجوز على الأنبياء.
          وقد ذهب قومٌ إلى أنَّ النُّطفةَ مِن الرَّجل فيها روحٌ، فصرْفُها عن الرَّحم إتلافٌ لذلك الرُّوح؛ فلذلك جُعل وأدًا، وقد أنزل الله في كتابه ما أوضحَ وقتَ إمكان الولد، وهو التَّارات السَّبع السَّالفة، فأعلمَه اللهُ بذلك الوقت الَّذي تكون فيه الحياة في المخلوق مِن النُّطفة، فيجوز أن يُوأَد حينئذٍ فيكون ميِّتًا، أو يستحيل أن يُوأَد ما قبل ذلك لأنَّه ميِّتٌ كسائر الأشياء الَّتي لا حياة فيها، وقال ابن لَهِيعَةَ فيما ذكره الصُّوليُّ في كتاب «التَّسليم»: لا تكون مَوؤودةً حتَّى تتطور ثمَّ تستهلَّ، وحينئذٍ إذا ثبتت فيه وُئدت.
          فَصْلٌ: لمَّا سألوا العزلَ أجابَهم وسكت عن أمر الموطوءات المُشركات، فاغترَّ بهذا الظَّاهر قومٌ فقالوا: يجوز وطء الوثنيَّات والمجوسيَّات بالمُلْك وإن لم يُسْلِمْن، وإليه ذهب طاوسٌ وابن المسيِّب، واختُلِف في ذلك عن عَطَاءٍ ومجاهدٍ، وحكى ابنُ أبي شَيْبَة عن عَطَاءٍ وعمرِو بن دينارٍ أنَّهما لا يريان بالتَّسرِّي بالمجوسيَّة بأسًا، قال: وكرهَه سعيدُ بن المسيِّب، ويردُّه قولُه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وإلى التَّمسُّك بعموم الآية صار جمهور العلماء، ولم يعوِّلوا على ما ظهرَ مِن هذا الحديث، ورأوا أنَّ ذلك محمولٌ على جواز وطء مَن أسلم منهنَّ، وأنَّ الفِداء المتخوَّف فوتُه بوطئهنَّ إنَّما هو أثمانهُنَّ، وقد دلَّ على صحَّة هذا التَّأويل ما ذُكر في حديث أبي سعيدٍ، ثمَّ إنَّا نقول: لو سلَّمنا أنَّ ظاهرَ هذا الحديث جوازُ الإقدام على وطء المسبيَّات مِن غير إسلامٍ لزم جوازُ الإقدام على وطئهنَّ مِن غير استبراءٍ، ومع وجود الحمل البيِّن وهو ممنوعٌ اتفاقًا، فيلزمُ المنعُ مِن الوطء لاستوائهما في الظُّهور، ويُعلَم قطعًا أنَّهم لا يقدِمُون على وطء فرجٍ لا يتحقَّق حِلُّه، فكذلك يُعلم أنَّهم لا بدَّ لهم مِن استبراءٍ وإسلامٍ، وإن كان الرَّاوي قد سكت عنه، وسكوتُه إمَّا هو للعلم بها وإمَّا لأنَّ الكلام يُجمل في غير مقصوده.
          والَّذي يُزِيح الإشكال ويرفعهُ ما رواه عبد الرَّزَّاق عن الحسن قال: كنَّا نغزو مع الصَّحابة، فإذا أراد أحدُهم أن يُصيبَ الجارية مِنَ الفيءِ أمَرَها فغسلَت ثيابَها واغتسلَت، ثمَّ علَّمَها الإسلامَ وأمرَها بالصَّلاة واستبرأها بحيضةٍ، ثمَّ أصابَها. وكذلك رواه أيضًا عن الثَّوريِّ أنَّه قال: السُّنَّة أن لا يقع على مشركةٍ حتَّى تصلِّيَ ويستبرئها وتَغْتَسِل.
          والَّذي حرَّكهم على السُّؤال عن العزل خوفُهم أن يكون محرَّمًا؛ لأنَّه قطعُ النَّسل.
          فَصْلٌ: قوله: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ قَالَهَا ثَلاَثًا) وهي رواية جُوَيْرِيَة عن مالكٍ، وفي رواية: ((لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا))، وهي رواية ابن القاسم وغيره عن مالكٍ، وفهمت طائفةٌ منه النَّهيَ عن العزل والزَّجرَ عنه، كما حُكي عن الحسن ومحمَّد بن المثنَّى، وقد سلف، وكأنَّ هؤلاء فهموا مِن ((لَا)) النَّهيَ عمَّا يُسألُ عنه وحَذَفَ بعد قوله: ((لا))، فكأنَّه قال: لا تعزلوا وعليكم ألَّا تفعلوا، تأكيدًا لذلك النَّهي. وفهمت طائفةٌ منهم أنَّه إلى النَّهي أقرب، وفهمت طائفةٌ أخرى منها الإباحة، كأنَّها جعلت جوابَ السُّؤال قولَه: ((عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا)) أي ليس عليكم جناحٌ في ألَّا تفعلوا، وهذا التَّأويل أَوْلَى بدليل قوله: (مَا مِنْ نَسَمَةٍ...) إلى آخره، وبقوله: ((افعلُوا أو لَا تفعلُوا إنَّما هو القَدَرُ))، وبقوله: ((إذَا أرادَ الله خَلْقَ شَيءٍ لمْ يَمنَعْهُ))، وهذه الألفاظ كلُّها مصرِّحةٌ بأنَّ العزل لا يردُّ القدرَ ولا يضرُّ، فكأنَّه قال: لا بأس به، وبهذا تمسَّك مَن رأى إباحته مطلقًا عن الزَّوجة والأَمَةِ، وبه قال كثيرٌ مِن الصَّحابة والتَّابعين والفقهاء كما سلف، وكرهه آخرون مِن الصَّحابة وغيرِهم متمسِّكين بالطَّريقة المتقدِّمة وبقوله: ((ذلك الوأدُ الخفيُّ))، وكأنَّ مَن وَقَفَه على الإذن في الحرَّة رأى أنَّ الإنزال مِن تمام لذَّتها وَمِن حقِّها في الولد بخِلافِ الأَمَة، إذ لا حقَّ لها في شيءٍ ممَّا ذُكر.
          ويمكن على هذا أن يجمع بين الأحاديث المتعارِضة في ذلك، ويصير ما يُفهم منه المنعُ إلى الحرَّة إذا لم تأذَنْ، والإباحةُ إلى الإذنِ، والأَمَةُ يُحمل النَّهي على كراهية التنزيه والإذنُ على انتفاء الحُرْمة، وإن كان ظاهرُ قولِه: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ) الإنكارُ والزَّجْرُ، لكن يُضعِّفه قوله: (مَا مِنْ نَسَمَةٍ...) إلى آخره، فإذًا معناه الاستبعاد لفعلهم له بدليل رواية: ((ولِمَ يفعلُ ذلكَ أحدُكم؟)) قال الرَّاوي: ولم يقل: ولا يفعل، فعُلم أنَّه ليس بنهيٍ، وهو أعلم بالمقال، وفي رواية: ((اعزلْ عنها إنْ شئتَ))، وهو نصٌّ في الإباحة، وكذا قول جابرٍ: فبَلَغ ذلك رسول الله صلعم فلم ينهَنا.
          ومعنى الرِّواية السَّالفة عن مُسْلمٍ: ((مَا مِنْ كُلِّ الماءِ يكونُ الولدُ)) أنَّه ينعقدُ في الرَّحمِ مِن جُزءٍ مِن الماء، لا يشعرُ العازل مخرجَهُ، فيظنُّ أنَّه قد عزل كلَّ الماء وإنَّما عزَلَ بعضَه، فيخلقُ اللهُ الولدَ مِن ذلك الجزء اللَّطيف، قال الأطبَّاءُ: وذلك الجزءُ هو الشَّيء الثَّخين الَّذي يكون في الماء على هيئةِ نِصْف عَدَسةٍ.
          فَصْلٌ: الرِّواية السَّالفة: خَادِمُنَا وسَايِسُنَا، كذا لابن الحذَّاء في سَاسَ الفرسَ يَسُوسُه إذا خَدَمَه، ورُوي أيضًا: سَانِيَتُنَا، يعني الَّذي يَسقي لهم الماء.
          فَصْلٌ: فيه دليلٌ على لَحَاقِ الولد بمَن اعترفَ بالوطء وادَّعى العزل في الحرَّة والأَمَةِ، ولم يختلف عند المالكيَّة في ذلك إذا كان الوطء في الفرْجِ، كما قال القُرْطبيُّ.
          خاتمة: ابْنُ مُحَيْرِيزَ المذكور في إسناد حديث أبي سعيد الخدُرْيِّ اسمُه عبدُ الله بن مُحَيْرِيز بن جُنَادَة بن وَهْبِ بن لُوذَان بن سعد بن جُمَحٍ، قُرشيٌّ جُمَحِيٌّ مكِّيٌّ، ربَّاه أبو مَحْذَورَة أوسُ بن مِعْيَرِ بن لُوذَان، وأخوه أنس بن مِعْيَر قُتِل ببدرٍ كافرًا، قال رجاءُ بن حَيْوَةَ: إن فَخِرَ علينا أهلُ المدينة بعابدهم ابنِ عُمر فإنَّا نفخرُ بعابدنا ابنِ مُحيرِيز، إن كنتُ لأعدُّ بقاءَه أمانًا لأهل الأرض. ماتَ قبل المئة.