التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها

          ░83▒ بابُ مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابنتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا.
          5191- ذكر فيه حديث ابن عبَّاسٍ ☻، وقد سلف في المظالم في باب: الغرفة بطوله [خ¦2468]، وفي آخره: (وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ: سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عُمَرَ: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلعم أَزْوَاجَهُ)، وهو مطابقٌ لما ترجم له، وسلف بعضُه في العلم [خ¦89].
          وفيه بذل الرَّجل المال لابنتِه بتحسين عشرة زوجها لأنَّ ذلك صيانةٌ لعِرضه وعِرضها، وبذل المال في صيانة العِرض واجبٌ. وفيه تعريض الرَّجل لابنته بترك الاستنكار مِنَ الزَّوج، إذا كان ذلك يؤذيه ويُحرجه. وفيه سؤال العالم عن بعض أمور أهلِه، إذا كان في ذلك سنَّةٌ تُنقل، ومسألةٌ تُحفظ، وإن كان فيه غضاضةٌ، وعمَّا لا غضاضة فيه، وإن كان مِنْ سرِّه.
          وفيه توقيرٌ للعالم عما يخشى أنْ يَجْشَمُه، والمطل بذلك حتَّى يُخشى فواته وإذا خُشي ذلك جاز للطَّالب أن يفتِّش عمَّا فيه غضاضةٌ وما لا غضاضة فيه. وفيه إجابة العالم في ابنتِه وفي امرأتِه ممَّا سلف لها مِنْ خطأٍ، وما ضلَّت فيه مِنْ سنَّةٍ. وفيه سؤال العالم في الخلوات وفي موضع التَّبرُّز، لا سيَّما إذا كان في شيءٍ مِنْ أمر نسائِه وأسرارِه، فلا يجب أن يسأل عن ذلك في جماعة النَّاس، ويترقَّب المواضع الخالية.
          فصلٌ: وفيه كما قال الطَّبَريُّ الدِّلالة الواضحة على أنَّ الَّذي هو أصلحُ للمرء وأحسنُ به الصَّبر على أذى أهلِه، والإغضاءُ عنهم، والصَّفحُ عما يناله منهنَّ مِنْ مكروهٍ في ذات نفسه دون ما كان في ذات اللهِ، وذلك الَّذي ذكره عمرُ عن رسول اللهِ صلعم مِنْ صبره على ما يكون إليه منهنَّ مِنَ الشِّدَّة على رسول اللهِ صلعم، وأذاهنَّ وهجرهنَّ له، ولم يُذكر عن رسول اللهِ صلعم أنَّه عاقبهنَّ على ذلك، بل ذُكر أنَّ عمرَ هو الَّذي وعظهنَّ عليه دون رسول اللهِ صلعم، وبنحو الَّذي ذُكر عن عمرَ مِنْ خُلق رسول اللهِ صلعم تتابعت الأخبار عنه، وإلى مثله ندب أمَّته ◙، وقد قال فيما روته عائشة ♦ عنه صلعم: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) وخطب _فيما رواه عبد اللهِ بن زمعة_ فذكر النِّساء فقال: ((علام يعمَد أحدُكم فيجلد أَمَتَه جلد العبد، ولعلَّه يضاجعُها مِنْ يومه)) ويأتي هذا قريبًا في البخاريِّ.
          وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ ☻: ((علِّق سوطك حيث يراه الخادم)) وحديث أبي ذرٍّ: ((أخفْ أهلك / في اللهِ ولا ترفع عنهم عصاك)) فقيل: أسانيدهما واهيةٌ، وأفضل ما تخلَّق به الرَّجل في أهلِه الصَّفح عنهم، على ما صحَّ به الخبر عن رسول اللهِ صلعم، وقِيل: بل صحيحةٌ ومعنى ذلك أن يضرب الرَّجل امرأته إذا رأى منها ما يَكره فيما يجب عليها فيه طاعة، واعتلُّوا بأنَّ جماعةً مِنَ الصَّحابة كانوا يفعلون ذلك.
          رُوي عن جريرٍ عن مغيرة عن أمِّ موسى قالت: كانت ابنة عليِّ بن أبي طالبٍ تحت عبد اللهِ بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطَّلب فربَّما ضربها، فتجيء إلى الحسن بن عليٍّ فتشتكي، وقد لَزِقَ درع حريرٍ بجسدها مِنَ الضَّرب فيقسم عليها لَترجعنَّ إلى بيت زوجها. وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المُنْذِر عن أسماء قالت: كنت رابعة أربع نسوةٍ تحت الزُّبير، وكان إذا عتب على إحدانا أخذ عودًا مِنَ المشجب، فضربها به حتَّى يُكسر عليها.
          وروى شعبة عن عُمَارة قال: دخلت على أبي مِجْلَزٍ فذكر بينه وبين امرأته كلامٌ، فرفع العصا فشجَّها قدر نصف أُنملة إصبعه. وكان مُحمَّد بن عَجْلان يُحدِّث بقوله ◙: ((لا ترفع عصاك عن أهلك)) فكان يشتري سوطًا فيعلِّقه في قُبَّته لتنظر إليه امرأته وأهلُه.
          وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ منه بالأدب والوعظ، وألَّا يخلو مِنْ تفقُّدهم بما يكون لهنَّ مانعًا مِنَ الفساد عليهم، والخلاف لأمرهم، ومنه قول العرب: شقَّ فلانٌ عصا المسلمين إذا خالف أُلْفَتهم، وفرَّق جماعتهم، ومِنْ ذلك قِيل للرَّجل إذا قام بالمكان واستقرَّ به واجتمع إليه أمره: قد ألقى فلانٌ عصاه، وضرب فيه رُوَاقه، فأمَّا ضربها لغير الهجر في المضجع فغير جائزٍ له، بل هو محرَّمٌ عليه، قالوا: وقد حرَّم اللهُ أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فكذلك ضربهنَّ بغير ما اكتسبن حرامٌ.
          قال: والصَّواب: غير جائزٍ لأحدٍ ضربُ أحدٍ ولا أذاه إلَّا بالحقِّ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:58] سواءٌ كان المضروب امرأةً أو مملوكًا أو صغيرًا لأنَّ اللهَ تعالى قد أباح لهؤلاء ضرب مَنْ ذُكر بالمعروف على ما فيه صلاحُهم.
          وأمَّا حديث: ((لا ترفع عصاك عن أهلك)) فمحمولٌ على التَّرهيب في ذات اللهِ لئلَّا يركبوا ما لا ينبغي، فتبقى سبَّةً، إذ كان ◙ قيِّمًا على أهله وراعيًا عليهم، كما جُعل الأمير راعيًا على رعيَّته، وعلى الرَّاعي رعايةُ رعيَّته بما يصلحهم دِينًا ودُنيا، يوضِّحه قوله لفاطمة بنت قيسٍ: ((أمَّا أبو جهمٍ فلا يضع عصاه عن عاتقه)) أعلمَها شدَّته على أهلِه، فلو كان ما ذكروه لم يكن لتزهيدِه فيه بما ذكر معنًى، إذ الوعظ لا يوجب لصاحبه ذمًّا وقدحًا، وقد جاء: ((أمَّا أبو جهمٍ فضرَّابٌ للنِّساء)).
          فصلٌ: وفيه أنَّ لذي السُّلطان وغيرِه اتِّخاذَ الحَجَبَة ليحول بينه وبين مَنْ أراده، ومِنَ الوصول إليه إلَّا بإذنه لهم لقول عمرَ: ☺ (وَرسول اللهِ صلعم فِي مَشْرُبَةٍ وَإِذَا عَلَى الْبَابِ غُلَامٌ أَسْوَدُ).
          وفيه بيان أنَّ ما رُوي عن رسول اللهِ صلعم: ((لم يكن له بوَّابٌ)) أنَّ معناه: لم يكن له بوَّابٌ في الأوقات الَّتي يظهر فيها لحاجات النَّاس ويبرز لهم فيها، فأمَّا في الأوقات الَّتي يخلو بنفسِه فيها فيما لا بدَّ له منه، فإنَّه قد كان يتَّخذ فيها أحيانًا بوَّابًا وحاجبًا، ليُعْلِمَ مَنْ قَصَدَه أنَّه خالٍ بما لا بدَّ له منه مِنْ قضاء حاجةٍ، وتلك هي الحال الَّتي وصف عمر أنَّه وجد على باب مَشْرُبته بوَّابًا، وتأتي زيادةٌ في هذا المعنى في الأحكام، في باب: ما ذُكر أنَّه ◙ لم يكن له بوَّابٌ.
          قال المهلَّب: وفيه أنَّ للإمام والعالم أن يحتجب في بعض الأوقات عن بطانتِه وخاصَّتِه، عندما يطرقه ويحدث عليه مِنَ المشقَّة مع أهله وغيرهم، حتَّى يذهب ما بنفسه مِنْ ذلك ليلقى النَّاس بعد ذلك وهو منبسطٌ إليهم غير مشتكٍ لما عرض له.
          فصلٌ: في سكوته ◙ عن الإذن لعمرَ في تلك الحال الرِّفق بالأصهار، والحياء منهم عندما يقع للرَّجل مع أهلِه لأنَّه صلعم لو أمر غلامَه بردِّ عمرَ وصرفِه، لم يَجُزْ لعمرَ أن ينصرف مرَّةً بعد أخرى حتَّى أذن له ◙ ودخل عليه، فدلَّ ذلك أنَّ السُّكوت قد يكون أبلغ مِنَ الكلام وأفضل في بعض الأحايين.
          فصلٌ: وفيه الإبانة كما قال الطَّبَريُّ عن أكل لذَّةٍ وشهوةٍ قضاها المرء في الدُّنيا فيما له مندوحةٌ عنها، فهو استعجالٌ مِنْ نعيم الآخرة الَّذي لو لم يستعجله في الدُّنيا كان مدخورًا له في الآخرة وذلك لقوله ◙: ((أولئك قومٌ عُجِّلت لهم طيِّباتهم في الدُّنيا))، فأخبر أنَّ ما أوتيه فارس والرُّوم مِنْ نعيم الدُّنيا تعجيلٌ مِنَ اللهِ لهم نظير ما ادَّخر لأهل عبادتِه عندَه، فكره ◙ لأمَّته أن تُؤتى مثل ما أُوتي فارس والرُّوم على سبيل التَّلذُّذ والتَّنعُّم.
          فأمَّا على صرفه في وجوهه وتفريقُه في سبُله الَّتي أمر اللهُ بوضعه فيها فلا شكَّ في فضل ذلك وشرف منزلتِه، إذ هو مِنْ باب منازل الامتحان والصَّبر على المحن، مع أنَّ الشُّكر على النِّعم أفضلُ مِنَ الصَّبر على الضرَّاء وحدَها.
          فصلٌ: معنى (فَتَبَرَّزَ) خرج إلى البَراز، وهو ما برز عن البيوت والدُّور وبَعُد. ومعنى: (سَكَبْتُ) صببت، يُقال: سَكَبْتُ أَسْكُبُ سَكْبًا، وهو ماءٌ مسكوبٌ إذا سال.
          وقولُه: (وَهُمْ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ) العوالي: جمع عاليةٍ، وهو ما ارتفع مِنْ نجدٍ إلى تِهامة، والسَّوافل: ما سفُل مِنْ ذلك، ومعنى (تُرَاجِعَنِي) ترادُّني، ومنه قولُه تعالى: {عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] قِيل: عنى به ردَّ الماء في الصُّلب، وقِيل: عنى به ردَّ الإنسان بعد الكِبر إلى الصِّغر، وقِيل: عنى به ردَّ الإنسان بعد مماته كهيئتِه قبل مماتِه، وقد أسلفنا هناك أنَّ المراد بالجارة الضَّرَّة، وهو كلام العرب، ومنه قول حَمَل بن مالكٍ: كنت بين جارتين، في معنى ضَرَّتين، قال ابن سِيرين: وكانوا يكرهون أن يقولوا: ضَرَّةً، ويقولون: إنَّها لا تذهب مِنْ رزقِها بشيءٍ، ويقولون: جارةً، والعرب تُسمِّي صاحب الرَّجل وخليطَه جاره، والصَّاحبة والخليطة جارةً، وتُسمَّى زوجة الرَّجل جارةً لاصطحابهما ومخالطة كلِّ واحدٍ / منهما صاحبه، وقد سلف في حديث: ((الجار أحقُّ بسقبه)).
          فصلٌ: وفيه الإلحاح في الاستئذان، وأنَّه يستأذن ثلاثًا، وإن علم أنَّه سمعَه. وقال مالكٌ: إن علم أنَّه لم يسمعْه فلا بأس أن يزيد على الثَّلاثة، وقِيل: لا يجوز ذلك لعموم النَّهي عن ذلك.