التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار الضرة

          ░106▒ (بَابُ الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ، وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ)
          5219- ذكر فيه حديثَ هِشَامٍ: (عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ ♦ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ).
          هذا الحديث أخرجه مُسْلمٌ مِن حديثِ وكيعٍ وعَبْدَةَ، عن هِشَامٍ عن أبيه، عن عَائِشَةَ ♦: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقُولُ إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي، فقال: ((الْمُتَشَبِّعُ...)) إلى آخره، واعترضوا عليه فيه، فلمَّا ذكرَه النَّسائيُّ مِن هذا الوجه قال: إنَّه خطأٌ، والصَّواب حديثُ أسماءَ.
          وقال الدَّارقطنيُّ في «علله»: هِشَامٌ عن أبيه عن عَائِشَة ♦، إنَّما يرويه هكذا مَعْمَرٌ والمُبَارَكُ بن فَضَالَة، والصَّحيح: عن فاطِمَةَ عن أسماءَ، وإخراج مُسْلمٍ حديث هِشَامٍ عن أبيه عن عَائِشَة لا يصحُّ، والصَّواب: حديثُ عَبْدةَ ووكيعٍ وغيرِهما عن هِشَامٍ، عن فاطِمَةَ، عن أسمَاءَ. وقال في «التَّتبُّع»: هذا لا يصحُّ، أحتاجُ أن أنظرَ في كتاب مُسلمٍ، فإنِّي وجدتُه في رُقعةٍ، / والصَّوابُ: عن عَبدةَ ووكيعٍ وغيرهما، عن أسماءَ. وجاء في الإسماعيليِّ: إنَّ لي جارةً. وهي الضَّرَّةُ كما سلف.
          قال أَبُو عُبَيْدٍ: (الْمُتَشَبِّعُ) الْمُتَزَيِّنُ بأكثرَ ممَّا عندَه، يتكثَّرُ بذلك ويتزيَّنُ بالباطلِ، كالمَرأةِ يكونُ لها ضَرَّةٌ فتتشبَّع عندَها بما تدَّعيه مِن الحَظوةِ عند زوجها بأكثرَ ممَّا عندها، تُريدُ بذلك غيظَ صاحبَتِها وإدخالَ الأذى عليها، وكذلك هذا في الرَّجل.
          وقوله: (كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) يريد أنَّ الرَّجلَ يلبسُ ثيابَ أهلِ الزُّهد والعبادة، ومقصوده: أنَّه يُظهِر للنَّاس اتِّصافَه بذلك بأكثرَ ممَّا في قلبهِ، فهذه ثيابُ زُورٍ ورياءٍ، وقيل: هو كمَن لَبِسَ ثوبين لغيرهِ فأَوهَمَ أنَّهما له، وقيل: هو مَن يَلبَسُ قميصًا واحدًا ويصِلُ بكمَّيْهِ كُمَّيْنِ آخرَين، فيُظهر أنَّ عليه قميصَين.
          قال الخطَّابيُّ: والمراد هنا بالثَّوبِ الحالةُ والمذهبُ، والعربُ تُكنِّي بالثَّوب عن حال لَابِسه، ومعناهُ: أنَّها كالكاذبِ القائلِ ما لم يكن.
          وقال نُعَيمُ بن حمَّادٍ: وهو أنَّ الرَّجلَ يُطلَب منه شهادةُ زورٍ، فيلبسُ ثوبين يتجمَّل بهما، فلا تُردُّ شهادتُه لحُسنٍ، فيقال: هذا أمضاها بثوبيه، فأُضيفَ الزُّور إلى الثَّوبين.
          قال بعضُ أهلِ المعرفةِ بلسان العرب: وللتَّشبيه هنا معنًى صحيحٌ، لأنَّ كَذِبَ المُتَحَلِّي بما لم يُعطَ مَثنى، فهو كاذبٌ على نفسِه بما لم يأخُذ، وعلى غيره بما لم يَبذل له، وعند ابن التِّين: يريد أنَّه لا ينتفع بذلك كما لا ينتفع بذلك لابسُ ثوبَي زورٍ، وهي تكون مِن وجوهٍ مثل أن تلبسَ المرأةُ ثوبي وديعةٍ أو عاريةٍ ليظنَّ النَّاسُ أنَّهما لها، فلباسُها لا يدومُ وتُفتضَحُ بكذبها، وإنَّما أراد بذلك خوفًا مِن الفساد بين زوجها وضرَّتها، وهو مثل الزُّور الَّذي صاحبُه فيه مأثومٌ.
          وقال الدَّاوديُّ: إنَّما كُره ذلك لأنَّه يُدخِل بين المرأة الأخرى وزوجِها البغضَاءَ، فيصيرُ كالسِّحْرِ الَّذي يفرِّقُ بين المرءِ وزوجِه. قال القرطبيُّ: وذلك التَّشبُّعُ محرَّمٌ، وإنَّما صار محرَّمًا لأنَّه تصرُّفٌ في مُلك الغير بغير إذنه، وأذى الضَّرَّة وأذى المسلم محرَّمٌ، ثمَّ نقل ابنُ التِّين عن الخطَّابيِّ أنَّه قال: فيه تأويلان:
          أحدُهما: أنَّ الثَّوبَ مَثَل، ومعناه: إنَّ المتَشبِّعَ بما لم يُعطَ صاحبُ زورٍ وكذبٍ، كما يُقال لمن وُصف بالبراءة مِن الأدْناسِ: طاهرُ الثَّوبِ، والمرادُ به نفسُ الرَّجل، ومثلُه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
          والثَّاني: أن يكونَ أرادَ بالثَّوبِ نفسَه، رُوي لنا في هذا عن نُعَيْمِ بن حمَّادٍ قال: الرَّجلُ في الحيِّ له هيئةٌ وشارةٌ، فإذا احتيجَ إلى شهادة الزُّور شَهِد لهم فيُقبلُ، وهذا أسلفناه.