التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ضرب الدف في النكاح والوليمة

          ░48▒ (بَابُ: ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ).
          5147- ذكر فيه حديثَ الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْرَاءَ: (جَاءَ النَّبِيُّ صلعم فَدَخَلَ عَليَّ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدرٍ، إِذْ قَالَتْ إَحْداهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ: دَعِي هَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ).
          سلف في المغازي [خ¦4001]، ولابن ماجَهْ: ((أمَّا هذا فلا تَقولوه، مَا يعلمُ ما في غدٍ إلَّا الله)).
          وقوله: (يَوْمَ بَدْرٍ) كذا هنا، وذكر الكَلْبيُّ: يوم بُعَاثٍ، وقال ابن التِّينِ عن النَّسَائيِّ: حديثٌ حسنٌ، وإنَّما هو مَنْ قتل آبائي يوم أُحدٍ، وفي بعض روايات البُخاريِّ: <مَنْ قَتَلَ آبَائِي> بإسقاط (مِنْ).
          والنَّدْبُ ذكرُ النَّادبةِ الميِّتَ بحُسن الثَّناء والافتخار، قَالَ ابن العربيِّ: وكانوا كفَّارًا فلم يكن في ذكرهم بحضرة الشَّارع حرجٌ بما يذكرون به، ولو كانوا مسلمين لم ينْبغِ أن يندبوا بمدحٍ لأنَّ ذَلِكَ ممَّا يوجب لهم عذابًا، وإنَّما يندبون بترحُّمٍ ودعاءٍ. قُلْتُ: عندنا لا يُعذَّب به إلَّا إذا أوصى.
          فصلٌ: في الحديث فوائدُ:
          تشريفُ الرُّبَيِّع بدخول سيِّد الخلق عليها وجلوسِه أمامها حيث يجلس الرَّأس، والضَّربُ بالدُّفِّ في العرس بحضرةِ شارعِ الملَّة ومُبيِّنِ الحِلِّ مِنَ الحُرمة، وإعلانُ النِّكاح بالدُّفِّ والغناءُ المباح فرقًا بينه وبين ما يُستتر به مِنَ السِّفاح، وإقبالُ العالم والإمام إلى العُرسِ وإن كان لعبٌ ولهوٌ مباحٌ، فإنَّه يورِثُ الأُلفة والانشراح، وليس الامتناع مِن ذَلِكَ مِنَ الحياء الممدوح بل فعله هو الممدوح المشروع، وجوازُ مدح الرَّجل في وجهه بما فيه، فالمكروه مِنْ ذلك مَدحُه بما ليس فيه.
          فصلٌ: قولها: (حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ) هذِه اللُّغة الفصيحة، وأصله أنَّ الرَّجل كان إذا تزوَّج امرأةً بنى عليها قبَّةً ليدخل عليها فيها، وأنكر غير واحدٍ مِنَ النَّحويين: بنى بي، وقد وردت في أحاديث صحيحةٍ.
          فصلٌ: الدُّفُّ دالُه مضمومةٌ عَلَى الأفصح / وقد تُفتح، وهو الَّذي بوجهٍ واحد، واختُلف في الضَّرب بالوجه مِنَ الوجهين جميعًا كما قَالَ ابن التِّينِ.
          وقوله: (دَعِي هَذَا) أي أنَّ الغيبَ لا يعلمُه إلَّا الله، وقد سلف.
          فصلٌ: ومِنْ أحاديث الباب عَلَى شرط «الصَّحيح»: حديثُ مُحمَّد بن حاطبٍ رفعَه: ((فَصلُ ما بينَ الحلال والحرام الضَّربُ بالدُّفِّ)) أخرجه النَّسَائيُّ وابن ماجه والتِّرْمِذيُّ، وقال: حسنٌ، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال ابن طاهرٍ: ألزم الدَّارَقُطْنيُّ مسلمًا إخراجَه، وهو صحيحٌ. وفي رواية عبد الله بن أحمد بن حنبلٍ عن غير أبيه مِنْ حديث عمرو بن يحيى المازِنيِّ عن جدِّه أبي حسنٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان يكرهُ نكاحَ السِّرِّ حتَّى يُضرب بدُفٍّ، ويقول: ((أتيناكم أتيناكم، فحيُّونا نحيِّيكم)).
          وحديث بُريدة ☺: أنَّ رسولَ الله صلعم لمَّا رجع مِنْ بعض مغازيه جاءته جاريةٌ سوداء، فقالت: يا رسول الله، إنِّي نذرت إنْ ردَّك الله سالمًا أنْ أضربَ بين يديك بالدُّفِّ وأتغنَّى، فقال لها: ((إنْ كُنتِ نَذرت فأوفي نَذْرَكِ)) رواه التِّرْمِذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ، ونازعَه ابن القَطَّان، ورواه ابن حبَّان في «صحيحه» بطريقٍ جيِّدٍ، وفيه: فقعد ◙ وضربت بالدُّفِّ.
          وهذِه الأَمَة هي سُدَيْسَة مولاة حفصَة كما أفاده ابنُ طاهرٍ في «إيضاح الإشكال»، وسيأتي في البُخاريِّ عن عائشة ♦: أنَّها زفَّتِ امرأةً إلى رجلٍ مِنَ الأنصار، فقال صلعم: ((يا عائشةُ، ما كان معكم لَهوٌ، فإنَّ الأنصارَ يُعجبهم اللَّهو)).
          فصلٌ: ومِنْ ضعيفِه حديثُ عائشة ♦: أنَّها أنكحَت ذا قرابةٍ لها مِنَ الأنصار، فقال ◙: ((أهديتم الفتاة؟)) قالوا: نعم، قَالَ: ((أَرْسَلْتُم معها مَنْ يُغنِّي؟)) قَالَت: قُلْتُ: لا، فقال: ((إنَّ الأنصارَ قومٌ فيهم غزلٌ، فلو بعثتم معها مَنْ يقول: أَتَيْنَاكُم أَتَيْنَاكُم، فحيَّانَا وحيَّاكُم)) أخرجه ابن ماجه، وقال أحمد: حديثٌ منكرٌ، ولابن أبي حاتمٍ: ((أعلنوا النِّكاح واضربوا عليه بالغربال))، وللتِّرمِذِيِّ مضعَّفًا: ((واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدُّفوف))، ولابن الأثير في «الصَّحابة» مِنْ حديث عبد الحميد بن مَهْديٍّ: حَدَّثنا المعافى، حَدَّثنا مُحمَّد بن سَلَمة عن الفَزاريِّ عن عبد الله بن هَبَّار بن الأسود بن المطَّلب، عن أبيه: أنَّه زوَّج بنتًا فضرب في عرسها بالكَبَر، فلمَّا سمعَه رسول الله صلعم فقال: ((هذا النِّكاح لا السِّفاح))، وللنَّسَائيِّ مِنْ حديث عامر بن سعدٍ عن قَرَظَة بن كعبٍ وأبي مسعودٍ قالا: ((رُخِّص لنا في اللَّهو عند العرس))، زاد ابن أبي شيبة: ثابت بن وديعة. وروى الطَّبَريُّ عن السَّائب بن يزيد: لقِيَ رسولُ الله صلعم جواريَ يغنِّين، يَقُلْنَ: حيُّونا نحيِّيكم، فقال: ((لَا تَقُولُوا هكذا، ولكِنْ قُولوا: حَيَّانَا وَحَيَّاكم)) فقال رجلٌ: يا رسول الله، تُرخِّص للنَّاس في هذا؟ فقال: ((نعم، إنَّه نكاحٌ لا سفاحٌ)).
          فصلٌ: ترجم البُخاريُّ للنِّكاح والوليمة وذكر ما يدلُّ للوليمة فقط، وكأنَّه قاس النِّكاح عليها، ولأنَّ البناء نكاحٌ، وعندنا الضَّربُ به في العرس والخِتان جائزٌ، العرسُ نصًّا والخِتان قياسًا، وفي غيرهما وجهان، أصحُّهما الجواز وإن كان فيه جلاجل لإطلاق الأدلَّة، ومَنِ ادَّعى أنَّها لم تكن بجلاجل فعليه الإثبات.
          وقد أوضحت الكلامَ عَلَى الدُّفِّ في «شرح المنهاج»، ولا بدَّ لك مِنَ الوقوف عليه.