التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟

          ░29▒ (بَابُ: هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأَحَد؟)
          5113- ذكر فيه حديثَ ابن فُضَيلٍ عن هشامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنَ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِي المَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟! فَلَمَّا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:51] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ.
          رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ المُؤَدِّبُ وَمُحمَّد بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ).
          هذا الحديث تقدَّم في سورة الأحزاب [خ¦4788] مِنْ حديث أبي أسامة عن هشامٍ عن أبيه، و(أَبُو سَعِيدٍ) هذا هو مُحمَّد بن مسلم بن أبي الوضَّاح المثنَّى الجَزَريُّ، روى عنه أبو النَّضْر هاشمٌ وأبو داود سليمان بن داود الطَّيالسيُّ، وأبو الوليد هشامٌ بن عبد الملك الطَّيالسيُّ، وجماعةٌ، انفرد به مسلمٌ عن البُخاريِّ، وروى له أيضًا التِّرْمِذيُّ، وكان مؤدِّبَ موسى الهادي، ومات ببغداد في خلافته، وكانت مِنَ المحرَّم سنة تسعٍ وستِّين إلى ربيعٍ الأوَّل سنة سبعين، قَالَ ابنُ سعدٍ: كان مِنْ قضاعة مِنْ أنفسهم، فلمَّا كان أبو جعفرٍ المنصور بالجزيرة ضمَّ أبا سعيدٍ إلى المهديِّ، والمهديُّ يومئذٍ ابن عشر سنين أو نحوِها، وقدِم معه بغداد، وضمَّ أبو جعفرٍ المنصور إلى المهديِّ سفيان بن حسينٍ، فضمَّ المهديُّ أبا سعيدٍ المؤدِّب إلى عليِّ بن المهديِّ، ولم يزل معه إلى أن مات في خلافة موسى الهادي بن المهديِّ، قَالَ ابن مَعينٍ: ثقةٌ، وقال أبو داود: جَزَريٌّ ثقةٌ، معلِّم موسى. وقال يعقوب بن سفيان: كان مؤدِّب موسى قبل أن يُستخلف، وهو ثقةٌ، وقال ابن نُمَيْرٍ: صالحٌ، لا بأس به. وقيل: دُفن أبو سعيدٍ في مقابر الخَيْزُران.
          فصلٌ: رُوي عنها أنَّها قالت هذا، يعني: (مَا أَرَى رَبَّكَ...) إلى آخره، لمَّا نزلت: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، وقد سلف أيضًا، قَالَ ابنُ القاسم عن مالك: الموهوبة خاصَّةً لرسول الله صلعم لا يحلُّ لأحدٍ بعده أن يتزوَّج بغير صداقٍ، لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ولا خلاف فيه بين العلماء.
          واختلفوا في عقد النِّكاح هل يصحُّ بلفظ الهبة، مثل أنْ يُقال: وهبتُ لك ابنتي ووليَّتي، ويُسمِّي صداقًا أو لم يُسمِّ، وهو يريد بذلك النِّكاح، فقال ابن القاسم: هو عندي جائزٌ كالبيع عند مالكٍ؛ لأنَّ مَنْ قَالَ: أَهَبُ لك كذا عَلَى أن تعطيني كذا، فهو بيعٌ، وقال ابن الموَّاز: لم يختلف قول مالكٍ وأصحابه إذا تزوَّج عَلَى الهبة أنَّه يفسخ قبل البناء، واختلفوا إذا دخل بها، فقال ابن القاسم وعبد الملك: لا يفسخ ولها صداق المثل، وبهذا قَالَ أبو حنيفة والثَّوْريُّ، وقال أَشهبُ وابن عبد الحكم وابن وَهْبٍ وأَصبغُ: إنَّه يفسخ وإن دخل بها، قَالَ أَصبغُ: لأنَّ فساده في البُضع، وبهذا قَالَ الشَّافعيُّ، قَالَ: لا يصحُّ النِّكاح بلفظ الهبة، ولا يصحُّ عندَه إلَّا بأحد لفظين: التَّزويج أو الإنكاح، وهو قول المغيرة وابن دينارٍ وأبي ثورٍ، ووجهُه أنَّ الله تعالى جعل انعقاد النِّكاح بها خاصًّا لنبيِّه، فلو انعقد نكاحٌ به لم يقع الخصوص، ولمَّا أجمعوا أنَّه لا تنعقد هبةٌ بلفظ نكاحٍ، كذلك لا ينعقد نكاحٌ بلفظ هبةٍ، وأيضًا فإنَّ الهبة لا تتضمَّن العِوض فوجب ألَّا ينعقد به النِّكاح كالإحلال والإباحة، واحتجَّ مَنْ أجازه بأنَّ الواهبة إنَّما قصدت بلفظ الهبة التَّزويجَ برسول الله صلعم، ولم يقل صلعم: إنَّ النِّكاح بهذا اللَّفظ لا ينعقد، ودعوى الخصوص فهي أنَّها بلا مهرٍ فقط.
          والفرق فيما قاسوا عليه أنَّ النِّكاح لا يُفهم منه الهبة والتَّمليك بخلافها، وقولهم: إنَّ الهبة لا تتضمَّن العِوض فيبطل بزوَّجتُكها عَلَى ألَّا مهر، فإنَّه ينعقد عندهم، ولفظ الهبة إذا قُصد بها النِّكاح يتضمَّن العوض لقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وكذا الإحلال والإباحة إذا قصد به النِّكاح صحَّ، وضمن العوض عندنا.