التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة

          ░114▒ (بَابُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ)
          5236- ذكر فيه حديثَ عَائِشَةَ ♦ قالت: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ في الْمَسْجِدِ...) الحديث.
          سلف قريبًا في الصَّلاة [خ¦454]، وهو حجَّةٌ لمن أجاز النَّظرَ إلى اللَّعب في الوليمة وغيرِها.
          وفيه: جواز النَّظر للنِّساء إلى اللَّهو واللَّعب لا سيَّما الحديثةِ السِّنِّ، فإنَّه ◙ قد عَذَرها لحداثة سنِّها، وفيه أنَّه لا بأس بنظر المرأة إلى الرَّجل مِن غير ريبةٍ، أَلَا ترى ما اتَّفق عليه العلماء مِن الشَّهادة عليها أنَّ ذلك لا يكون إلَّا بالنَّظر إلى وجهها، ومعلومٌ أنَّها تنظرُ إليه حينئذٍ كما ينظر إليها، وإنَّما أراد البخاريُّ به الرَّدَّ لحديث ابن شِهَابٍ، عن نَبْهَانَ مولى أمِّ سَلَمَة، عن أمِّ سَلَمَة أنَّها قالت: كنتُ أنا وَمْيمُونة جالستين عند رسول الله صلعم، فاستأذنَ عليه ابنُ أمِّ مكتومٍ فقال: ((احْتَجِبَا مِنهُ))، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يُبصِرُنا ولا يَعرِفُنا؟ فقال: ((أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ؟!)) حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ، وقال التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وكذا صحَّحه ابنُ حبَّان أيضًا.
          وفي سنده: نَبْهَانُ المَخْزُومِيُّ مُكَاتَب أمِّ سَلَمَة، قال البيهقيُّ في الكتابةِ مِن «سُننه»: صاحبا الصَّحيح لم يُخرجا عنه، وكأنَّه لم تثبُت عدالته عندهما، ولم يخرجْ مِنَ الجهالة برواية عدلٍ عنه. قلت: قد روى عنه اثنان: الزُّهْرِيُّ، ومحمَّد بن عبد الرَّحمن مولى آل طَلْحَة، وذكرَه ابن حبَّان في «الثِّقات»، وصحَّح الحاكمُ حديثَه.
          وأعلَّه أيضًا ابن بطَّالٍ حيث قال: حديثُ عَائِشَةَ أصحُّ منه لأنَّه عن نَبْهَانَ، وليس بمعروفٍ بنقل العِلْم ولا يروي إلَّا حديثين: أحدُهما هذا، والثَّاني في المكاتَب إذا كان معه ما يؤدِّي احتجبت منه سيِّدته، قال: فلا يستعمل حديث نَبْهَانَ لمعارضته الأحاديث الثَّابتة له وإجماع العلماء.
          قلت: ولا معارضةَ، بل يُحمل حديثُها على أنَّها كانت إذ ذاك صغيرةً، فلا حرج عليها في النَّظر إذًا، أو أنَّه رخَّص في الأعياد ما لا يرخِّص في غيرها، ويَبعُدُ أن يكون حديثُ عَائِشَة منسوخًا به وإن كان بعد الحِجَاب كما أخرجه أبو داودَ، وحديثُ عَائِشَة في أوائل الهِجْرة، أو أنَّ الحَبَش كانوا صبيانًا، أو مِن خصائصها لعظيم حُرْمتها، وقد قال لفاطِمَةَ بنت قَيْسٍ: ((اعتدِّي عند ابنِ أمِّ مكتومٍ، فإنَّه رجلٌ أعمى تَضَعين ثيابَك، فإنَّك إذا وضعتِ خِمَارك لم يرَك))، وهذا / مستفادٌ مِن كلام الشَّافعيِّ حيث ذكر احتجابَ أمِّ سَلَمَة مِن مُكاتَبها إذا كان عنده ما يؤدِّي كما ستعلمه.
          فَصْلٌ: قولها: (حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَسْأَمُ) كذا هو في الأصول، وأمَّا ابن التِّين فذكره بلفظ: (الَّذِي) ثمَّ قال: وصوابُه: الَّتي، لأنَّه نعتٌ للمؤنَّثِ كقوله تعالى: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].
          فَصْلٌ: قد أسلفنا مِن كلام الشَّافعيِّ حيث ذكر احتجابَ أمِّ سَلَمَة مِن مكاتَبها إذا كان عنده ما يؤدِّي، لأنَّ الله أعظمَ أزواجَ النَّبيِّ صلعم وفرَّق بينهنَّ وبين النِّساء، ولم يجعل على امرأةٍ سواهنَّ أن تحتجبَ ممَّن يحرُمُ عليه نِكاحُها. قال: ومع هذا إنَّ احتجاب المرأة ممَّن له أن يراها واسعٌ لها، وقد أمر ◙ سَوْدَةَ ممَّن قضى به أنَّه أخوها؛ وذلك يشبه أن يكون للاحتياط، وأنَّ الاحتجابَ ممَّن له أن يراها مباحٌ.