التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة؟

          ░76▒ بابٌ: هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ؟
          وَرَأَى ابن مَسْعُودٍ صُورَةً في البَيْتِ فَرَجَعَ، وَدَعَا ابن عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ ♥، فَرَأى فِي البَيْتِ سَتْرًا عَلَى الجِدَارِ، فَقَالَ ابن عُمَرَ: غَلَبَنا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، واللهِ لَا أطْعَمُ لَكَ طَعَامًا، فَرَجَعَ.
          5181- ثُمَّ ذكر حديث عائشة ♦ في النُّمرقة.
          وقد سلف في البيع، والنّـُِمْرُقة _بضمِّ النُّون وحُكي كسرُها_ والنُّمرق أيضًا: وسادةٌ صغيرةٌ، وربَّما سمَّوا الطِّنْفِسَة الَّتي فوق الرحل نُمْرُقةً، ويُقال: نُمْرُوقٌ أيضًا، وقِيل: المرافق، وقِيل: المجالس، ولعلَّه يعني: الطَّنافس وشبهها.
          ومثل حديث عائشة حديث عليٍّ ☻، أخرجه النَّسائيُّ مِنْ حديث قتادة عن ابن المسيِّب عنه: ((دعوتُ النَّبيَّ صلعم فدخل فرأى سَترًا فخرج وقال: إنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تصاوير)) ولأبي داود مِنْ حديث سَفِيْنَة نحوه، وقال: ((إنَّه ليس لي أو لنبيٍّ أن يدخل بيتًا مرقومًا)).
          وهذِه الأحاديث دالَّةٌ على أنَّه لا يجوز الدُّخول في الدَّعوة يكون فيها منكرٌ ممَّا نهى اللهُ عنه ورسوله، وما كان مثله مِنَ المناكير، ألا ترى أنَّه ◙ رجع مِنْ بيت عائشة حين رأى النُّمْرُقة بالتَّصاوير، وقد صحَّ الوعيد في المصوِّرين أنَّهم أشدُّ النَّاس عذابًا، وأنَّهم يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم، فلا ينبغي حضور المنكر والمعاصي، ولا مجالسة أهلِها عليها لأنَّ ذلك إظهارٌ للرِّضى بها، ومَنْ كثَّر سواد قومٍ فهو منهم، ولا يأمن فاعل ذلك حلول سخطِ الرَّبِّ جلَّ جلالُه، وعقابِه عليهم، وشمولَ لعنته لجميعِهم.
          وفي أبي داود مِنْ حديث جعفر بن بَرْقان عن الزُّهريِّ عن سالمٍ عن أبيه: ((نهى رسول اللهِ صلعم عن مطعمين: عن الجلوس على مائدةٍ يُشرب عليها الخمر، وأن يأكل وهو منبطحٌ على بطنِه)) قال أبو داود: هذا الحديث لم يسمعه جعفرٌ مِنَ الزُّهْريِّ وهو منكرٌ، وللنَّسَائيِّ مِنْ حديث جابرٍ رفعَه: ((مَنْ كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر فلا يجلس على مائدةٍ يُدار عليها الخمر)) ولأحمد مثله مِنْ حديث القاسم بن أبي القاسم عن قاصِّ الأجناد بالقُسطنطينة عن عمر به.
          وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ أنَّه سُئِلَ عن الرَّجل يُدعَى إلى الوليمة وفيها شرابٌ، أيجيب الدَّعوة؟ قال: لا، لأنَّه أظهر المنكر. وقال الشَّافعيُّ: إذا كان في الوليمة خمرٌ أو منكرٌ، وما أشبهه مِنَ المعاصي نهاهم، فإن انتهَوا وإلَّا رجع، وإن علم أنَّ ذلك عندهم لم أُحبَّ له أن يجيب. وقال مرَّةً: وإذا دُعي إلى الوليمة وفيها المعصية نهاهم، فإن نَحَّوا ذلك عنه، وإلَّا لم أحبَّ له أن يجلس، فإن رأى صورًا ذات أرواحٍ لم يدخل إن كانت منصوبةً لا تُوطأ، فإن كانت توطأ أو كانت صورًا غير ذات أرواح، فلا بأس أن يدخل.
          وقال الطَّحاويُّ: لم نجد عن أصحابنا في ذلك شيئًا إلَّا في إجابة دعوة وليمة العرس خاصَّةً، فإنَّها تجب عندهم، قال: وقد يُقال: إنَّ طعام الوليمة إنَّما هو طعام العرس خاصَّةً.
          واختلفوا في اللَّهو واللَّعب يكون في الوليمة، فقال اللَّيث: إذا كان فيها الضَّرب بالعود واللَّهو فلا ينبغي أن يشهدها، ورخَّص في ذلك الحسن.
          قال ابن القاسم: وإن كان فيها لهوٌ كالمزامير والعود فلا يدخل، وعن مالكٍ: إذا دُعي ورأى لهوًا خفيفًا مثل الدُّفِّ وَالْكَبَرِ فلا يرجع، وقال أصبغ: أرى أن يرجع، وذكر ابن الموَّاز عن مالكٍ قال: إذا رأى أحدًا مِنَ اللَّعَّابين فليخرج، مثل أن يجعل ضاربًا على جبهتِه أو يمشي على حبلٍ.
          وقال ابن وهبٍ عن مالكٍ: لا أحبُّ لذي الهيئة أن يحضر اللَّعب، قِيل له: فالكَبَر والمزمار وغيره مِنَ اللَّهو ينالك سماعُه وتجد لذَّتَه وأنت في طريقٍ أو مجلسٍ؟ قال: فليقمْ عن ذلك المجلس، وقد رجع ابن مسعودٍ في وليمةٍ، وقد قال صلعم: ((مَنْ كثَّر سواد قومٍ فهو منهم)).
          وقد ((مرَّ ابن عمرَ بزَمْرٍ، فجعل إصبعيه في أذنيه ومشى، وجعل يقول لنافعٍ: أتسمع شيئًا، قال: لا، فنحَّى يديه، ثُمَّ قال: كنت مع النَّبيِّ صلعم فسمع زَمَّارة راعٍ، ففعل مثلما فعلتُ)) أخرجه أبو حاتم بن حبَّان في «صحيحه». وقال أبو داود: حديثٌ منكرٌ.
          وقال أبو حنيفة: إذا حضر الوليمة فوجد فيها اللَّعب، فلا بأس أن يقعد يأكل.
          وقال مُحمَّدٌ: إذا كان الرَّجل مِمَّن يُقْتَدَى به فأحَبُّ لي أن يرجع.
          ورُوي أنَّ الحسن وابن سيرين كانا في جنازةٍ وهناك نَوحٌ، فانصرف ابن سيرين، فقِيل ذلك للحسن، فقال: إنْ كنَّا متى رأينا باطلًا تَرَكْنَا حَقًّا أَسْرَعَ ذلك في دِينِنا.
          واحتجَّ الكوفيُّون في إجازة حضور اللَّعب بأنَّه ◙ رأى لعب الحبشة، ووقف له، وأراه عائشة، وضُرِب عندَه في العيد بالدُّفِّ والغناء، فلم يمنع مِنْ ذلك. وحجَّة مَنْ كرهه أنَّه ◙ لمَّا لم يدخل البيت الَّذي فيه الصُّورة الَّتي نهى عنها، فكذلك كلُّ ما كان مثلها مِنَ المناكير.