التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من ضرب النساء

          ░93▒ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَقَوْلِهِ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ).
          5204- ثمَّ ساقَ حديثَ عبدِ الله بن زَمْعَةَ ☺: (عَنِ النَّبيِّ صلعم: لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا).
          كذا في الأصول، وفيه: ({وَاضْرِبُوهُنَّ}...) إلى آخره، وفي كتاب ابن بطَّال وابن التِّين: <وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ>، وكِلَاهما صحيحٌ، والمبرِّحُ بكسر الرَّاء الشَّاقُّ، ونقل ابنُ بطَّال عن قَتَادةَ: غيرَ شاقٍّ، وعن الحسن: غيرَ مُؤثِّرٍ، وهو معنى ما ذكرتُه.
          وفيه جوازُ الضَّرب غير المبرِّح.
          وقوله: (ثُمَّ يُجَامِعُهَا) لم ينهَهُ عن ذلك، وإنمَّا أخبرَ أنَّه قد يبدو له فيُجَامِعُها فيأْتِيْهَا وهيَ كارهةٌ، فلا يجدُ منها الوِدَّ الذي يكون عند الوَطْءِ، وهو تقبيحُ الضَّرْبِ وقربُ ما يُنَاقِضُهُ لقلَّةِ الرَّياضة بذلك؛ لأنَّ المرأةَ إذا عرَفَتْ قُرْبَ الرَّجْعَةِ وسُرْعَةَ الفَيْئَةِ لمْ تَعْبَأْ بأدبِهِ، ولا يقعُ فيها ما نَدَبَهُ الله إليه من رِيَاضَتِهَا، ويدلُّ على ذلك طول هِجْرانه ◙ لأزواجه المدَّةَ الطَّويلةَ، ولم يكن ذلك يومًا ولا يومينِ ولا ثلاثةَ، وكذلك كان هِجرانُه ◙ والمسلمين لكعبِ بن مالكٍ حتَّى مضت خمسونَ ليلةً، وإنَّما ذلك على ظاهر المعصية لله وللزَّوج، فأمَّا ما يدورُ منَ المغاضبةِ بين الرَّجلين مِن الخِلاف والكلام فلا يجوز المهاجرةُ فوق ثلاثِ ليالٍ.
          قال بعضُ أهلِ العراق: أمرَ اللهُ تعالى بِهَجْرِهِنَّ وضَرْبِهِنَّ تذليلًا منه للنِّساء وتصغيرًا لهنَّ على إيذاءِ بُعُولَتِهِنَّ، ولمْ يأمرْ في شيءٍ مِن كتابه بالضَّربِ صَراحًا إلَّا في ذلك وفي الحُدُود العِظَام، فساوى معْصِيَتَهُنَّ لأزواجهِنَّ بمعصية أهل الكبائر، وولَّى الأزواجَ ذلك دون الأئمَّة، وجعله لهم دون القُضَاة بغير شهودٍ ولا بيِّناتٍ ائْتِمَانًا مِن الله للأزواج على النِّساء، وإنَّما يُكْرَهُ مِن ضَرْب النِّساء التَّعدِّي فيه والإسرافُ، كما قاله المهلَّب، قال: وقد بيَّن الشَّارع ذلك فقال: ((ضَرْبَ العبْدِ)) مِنْ أجلِ الرِّقِّ فوقَ ضربِ الحُرِّ لتبايُنِ حالتَيهم، ولأنَّ ضَرْبَ النِّساءِ إنَّما جُوِّزَ مِن أجل امتناعِها على زوجها مِن المبَاضَعَةِ.
          واخْتُلِفَ في وجوبِ ضَرْبِهَا في الخِدْمَةِ، والقياسُ يُوْجِبُ أنَّهُ إذا جازَ في المبَاضَعَةِ جازَ في الخِدْمةِ الواجبةِ للزَّوْجِ عليها بالمعروفِ، وأمَّا ابنُ حَزْمٍ فقال: لا يَلْزَمُهَا أنْ تَخْدِم زوجَها في شيءٍ أصلًا، لا في عجينٍ ولا في طبخٍ، ولا كَنْسٍ ولا فرشٍ، ولا غِزْلٍ ولا غيرِ ذلك، ثُمَّ نقلَ عن أبي ثورٍ أنَّهُ قال: عليها أنْ تَخْدِمَهُ في كلِّ شيءٍ، ويُمكِنُ أنْ يُحْتَجَّ لهُ بالحديثِ الصَحيحِ: أنَّ فاطمةَ شَكَتْ إلى رسول الله صلعم ما تجِدُ مِن الرَّحَى، وبقولِ أسماءَ: كنتُ أَخْدِمُ الزُّبَيْرَ. ولا حُجَّةَ فيهما لأنَّهُ ليس فيهما أنَّهُ ◙ أَمَرَهُمَا، إنَّما كانتا مُتَبَرِّعَتَيْنِ.
          وقدْ سلَفَ قريبًا في باب موعظةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ / اختلافُ العلماءِ في ضرْبِ النِّساءِ، واختلافُ الآثارِ فيهم، وبيانُ مذاهبهم، وسنَذْكُرُ منه نُبذةً قريبًا.
          فَصْلٌ: قولُهُ: (ثُمَّ يُجَامِعُهَا) جاءَ في لفظٍ آخر: ((لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا))، وفي التِّرمذيِّ صحيحًا: ((ثمَّ لَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ)).
          وقولُهُ: (جَلْدَ الْعَبْدِ) جاء في الإسماعيليِّ: ((جَلْدَ الْبَعِيرِ أو قال: جَلْدُ الْعَبْدِ)).
          فَصْلٌ: جاءَ في الضَّرْبِ أيضًا من حديثِ لَقِيطِ بن صَبِرَةَ: ((وَلَا تَضْرِبْ ظَعِيْنَتَكَ ضَرْبَ أَمَتِكَ)) أخرجهُ أبو داودَ، وفي لفظِ ابنِ حِبَّان: ((كَضَرْبِكَ إِبِلَكَ))، ولَعَلَّهُ تَصْحِيْفٌ منهُ، ومِن حديث عَمْرِو بن الأَحْوَصِ: ((وَاْضِرِبُوْهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبِرِّحٍ)) صحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وأخرجهُ مِن حديث ابن عبَّاسٍ وعُمَرَ.
          وروى البَيْهَقيُّ في «المعرفة» مِن حديث عُمَرَ النَّهْيَ عنه، قالَ الشَّافِعيُّ: يُحْتَمَلُ أن يكون نهى عنه على اختيار النَّهْيِ، وأَذِنَ فيه بأن يكون مباحًا لهم الضَّرْبُ في الخوفِ، واختارَ لهم أنْ لا يضربوا لقوله: ((لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُم))، ويُحْتَمَلُ أن يكون قَبلَ نزولِ الآية بِضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ أَذِنَ بعد نزولها به، وقوله: ((لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُم)) دِلالةٌ على أنَّ ضَرْبَهُنَّ مباحٌ لا فرضٌ.
          فصْلٌ: عَنَى الشَّارِعُ بالفِرَاشِ في الحديث الصَّحيحِ: ((لَا يُوْطِئْنَ فُرْشَكُم أَحَدًا تَكْرَهُوْنَهُ)) ما افْتُرِشَ في البيوتِ لا فِرَاشَ الضَّجع، وفيه نهيٌ أن تُدخِلَ بيتَهُ مَنْ لَا يُرِيْدُهُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كما سلفَ.
          فَصْلٌ: وفي قولِهِ: (جَلْدَ العَبْدِ) بيانٌ أنَّ النِّكَاحَ رِقٌّ ويَدٌ ومُلكٌ وحكمٌ كنوعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُبُوْدِيَةِ كما نَبَّهَ عليه ابن العربيِّ، ولكنْ فيه فضلُ الاشْتِرَاكِ في الْمَنْفَعَةِ واستحقاق العِوَض عليها؛ ولذلك أَذِنَ الرَّبُّ تعالى في تأديب الزَّوْجِ للمرأةِ بفضلِ القَوَامِيَّة عليها فيما ينبغي كما يَجِبُ ويَجُوزُ مِن غير تعدٍّ ولا حَيْفٍ ولا عملٍ بحكمِ الغَضَبِ، ولا في سبيلِ التَّشَفِّي والانتقام.
          فَصْلٌ: هذا الضَّرْبُ ضربُ تأديبٍ، وفي عَدِّهِ عندنَا خِلَافٌ، هل هوَ دون الأربعين أو دون العشرين؟ وبعضُهم قيَّده بدون العشْرِ، للحديث الصَّحيح: ((لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ╡))، وإنَّما يَضْرِبُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَنْجَعُ، وَإِلَّا فَلَا فائدةَ فيه لأنَّ مَنْ لَا يَرْدَعُهُ الوعيدُ والتَّهْدِيْدُ وَلا السَّوْطُ الشَّديد فلا حاجة إلى ارتكابِ ما يؤذي: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الرُّوم:30]، فَبِاللُّطْفِ أوَّلًا أَنْجَحُ، لأنَّ الضَّرْبَ يَزِيْدُ في الإِعْرَاضِ، فإنْ لمْ يحصلْ فالتَّهْدِيدُ، وإلَّا فمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعبيدِ، وما أحسنَ ما حُكِيَ عن سعيدِ بن حربٍ: أنَّهُ أرادَ تَزَويجَ امرأةٍ فقال لها: إِنِّي سَيِّئُ الخُلُقِ، فقالت: أَسْوَءُ منك خُلُقًا مَنْ أَحْوَجَكَ أَنْ تكونَ سَيِّئَ الخُلُقِ، قال: أنتِ امْرَأَتِي.
          فصلٌ: راويُ هذا الحديثِ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَمْعَةَ هو ابنُ الأسود بن المطَّلِب الأَسَديِّ، ابنُ أخت أمِّ سَلَمَةَ، أحدُ الأشرافِ، كان يأذنُ على رسول الله صلعم، وعنه عُرْوَةُ وأبو بكر بن عبد الرَّحمن، وهو مِن الأفراد.