إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب:{إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا}

          ░4▒ هذا (بَابٌ) بالتَّنوين في قوله: ({إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}) الاستثناء متَّصلٌ أو منقطعٌ، ورجَّحَه أبو حيَّان: بأنَّ المستثنى منه محكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له العذاب، فيصير التقديرُ: إلَّا مَن تاب فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزمُ مِنِ انتفاءِ التضعيف انتفاءُ العذاب غير المضعَّف، فالأَولى عندي أنْ يكونَ استثناءً منقطعًا، أي: لكن مَن تاب وآمن، وإذا كان كذلك؛ فلا يَلْقَى عذابًا ألبتةَ، وتعقَّبه تلميذُه السَّمِينُ فقال: الظاهرُ قولُ الجمهور: إنَّه متَّصلٌ، وأمَّا ما قاله؛ فلا يلزمُ؛ إذِ المقصودُ الإخبارُ بأنَّ مَن فعل كذا؛ فإنَّه يَحِلُّ به ما ذُكِرَ إلَّا أن يتوبَ، وأمَّا إصابة أصل العذاب وعدمها؛ فلا تَعَرُّضَ له / في الآية ({ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}) {سَيِّئَاتِهِمْ}: مفعولٌ ثانٍ للتبديل، وهو‼ المقيَّدُ بحرف الجرِّ، وحُذِفَ لفَهْمِ المعنى، و{حَسَنَاتٍ} هو الأوَّلُ، وهو المأخوذُ، والمجرورُ بالباء هو المتروكُ، وقد صرَّح بهذا في قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ}[سبأ:16] وإبدال السَّيِّئات حسناتٍ: أنَّه يمحوها بالتوبة، ويثبتُ مكانَها الحسناتِ، وقال محيي السُّنَّة: ذهب جماعة إلى أنَّ هذا في الدنيا، قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: يُبَدِّلُهُمُ اللهُ بقبائحِ أعمالهم في الشرك محاسنَ الأعمال في الإسلام، فيبدِّلُهُم بالشركِ إيمانًا، وبقتلِ المؤمنينَ قتلَ المشركين، وبالزِّنا عِفَّةً وإحصانًا، وقال ابنُ المسيَّب وغيرُه: يبدِّل الله سيِّئاتِهِم التي عملُوها في الإسلام حسناتٍ يومَ القيامة، وقال ابن كثيرٍ: تنقلب السَّيِّئات الماضيةُ بنفس التوبة النصوح حسناتٍ؛ لأنَّه كلَّما تذكَّرها نَدِمَ واسترجعَ واستغفرَ، فينقلبُ الذنب طاعةً، فيوم القيامة وإن وجدَها مكتوبةً عليه؛ لكنَّها لا تضرُّه، بل تنقلبُ حسنةً في صحيفتِه، كما يدلُّ له حديث أبي ذرٍّ المرويُّ في «مسلمٍ» قال رسول الله صلعم : «إنِّي لأعرفُ آخرَ أهلِ النَّار خروجًا مِنَ النَّار، وآخرَ أهل الجنَّة دخولًا إلى الجنَّة، فيقول: اعرضوا عليه كِبار ذنوبه وسلوه عن صغارها(1)، قال: فيُقال له: عملتَ يومَ كذا كذا وكذا، وعملتَ يوم كذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن يُنكِرَ مِن ذلك شيئًا، فيقال: فإنَّ لكَ بكلِّ سيئة حسنةً، فيقول: يا ربِّ، عملتُ أشياءَ لا أراها ههنا»، قال: فضحك رسول الله صلعم حتى بدت نواجذه، وقال الزَّجَّاج: السَّيِّئةُ بعينها لا تصيرُ حسنةً، فالتأويل: أنَّ السيئةَ تُمحى بالتوبة، وتكتب الحسنةُ مع التوبة ({وَكَانَ اللهُ غَفُورًا}) حيث حطَّ عنهم بالتوبة والإيمان مضاعفةَ العذاب والخلودَ في النَّار والإهانة ({رَّحِيمًا}[الفرقان:70]) حيث بَدَّلَ سيِّئاتِهِم بالثواب الدائم والكرامة في الجنَّة، وسقط قوله: «{فَأُوْلَئِكَ}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ.


[1] رواية مسلم: «اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه».