إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قوله:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله...}

          ░1▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين، أي: في(1) (قَوْلُهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا}) في المعاصِي ({عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا})‼ لا تَيْئَسُوا ({مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}) الكبائر وغيرها الصَّادرة عن المؤمنين ({إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ}) لمن تاب ({ الرَّحِيمُ}[الزمر:53]) بعد التَّوبةِ لمن أنابَ، لكن قال القاضي ناصرُ الدِّين(2): تقييدُه بالتَّوبة خلاف الظَّاهر، وإضافة العباد تخصِّصه(3) بالمؤمنينَ كما هو عرفُ القرآن، وفي الآية من أنواعِ المعاني والبيان: إقبالهُ عليهِم، ونداؤُهم، وإضافتهم إليه إضافةَ تشريفٍ، والالتفات من التَّكلُّم إلى الغيبةِ في قولهِ: { مِن رَّحْمَةِ اللهِ} وإضافة الرَّحمة لأجلِّ أسمائهِ الحسنَى، وإعادة الظَّاهر بلفظه في قولهِ: {إِنَّ اللهَ} وإبراز الجملة من(4) قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} مؤكَّدَة بـ {إِنَّ} وإعادة الصِّفتين السَّابقتين و{الَّذِينَ أَسْرَفُوا} عام في جميع المسرفين، و{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إ} شاملٌ لكبائِرها وصغائِرها، فتغفرُ مع التوبةِ أو بدونها، خلافًا للمعتزلةِ حيث ذهبوا إلى أنَّه يعفو عن الصَّغائرِ قبل التَّوبة، وعن الكبائرِ بعدها، وجمهورُ أصحابنا: أنَّه يعفو عن بعضِ الكبائر مطلقًا ويعذِّب ببعضها، إلَّا أنَّه لا علمَ لنا الآن بشيءٍ من هذين البعضين بعينهِ. وقال كثيرٌ منهم: لا نقطعُ بعفوهِ عن الكبائر بلا توبةٍ بل نجوِّزه(5)، واحتجَّ الجمهورُ بوجهين: الأول: أنَّ العَفُوَّ لا يعذِّبُ على الذَّنبِ مع استحقاقِ العذابِ، ولا تقول المعتزلةُ بذلك الاستحقاق في(6) غير صورةِ النِّزاعِ، إذ لا استحقاقَ بالصَّغائرِ أصلًا، ولا بالكبائرِ بعد التَّوبة، فلم تبقَ إلَّا الكبائر(7) قبلها، فهو يعفو(8) عنها كما ذهبنا إليه. الثَّاني: الآيات الدَّالة على العفوِ عن الكبيرةِ قبل التَّوبة؛ نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48] فإنَّ ما عدا الشِّركِ داخلٌ فيه، ولا يمكن التَّقييد بالتَّوبة لأنَّ الكفرَ معفوٌّ معها، فيلزمُ تساوي ما نُفي عنه الغُفران وما أثبتَ له، وذلك ممَّا لا يليقُ بكلام عاقلٍ فضلًا عن كلامِ الله تعالى، وقوله: { إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53] عامٌّ للكلِّ، فلا يخرجُ عنه إلَّا ما أجمعَ عليه.
          وسقطَ قوله: «{إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ، ولفظ «باب» لغيرهِ.


[1] قوله: «أي في»: زيادة من (م).
[2] في (د): «البيضاوي».
[3] في (ص) و(م): «تخصيصه»، وفي (د): «وتخصيصه».
[4] في (د): «في»، وفي الهامش في نسخة: «من».
[5] في (د): «بجوازه».
[6] في (م): «من».
[7] في (ج): «الكبائر».
[8] في (م) و(د): «معفو».