إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث ابن جبير: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟

          4645- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) صاعقة قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) سَعْدويه البغداديُّ قال: (أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ) بضمِّ الهاء وفتح المعجمة مصغَّرًا، ابن بشيرٍ الواسطيُّ قال: (أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ) بكسر الموحَّدة وسكون المعجمة، جعفر بن أبي وحشيَّة إياسٍ الواسطيُّ(1) (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنَّه (قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ ☻ : سُورَةُ الأَنْفَالِ) ما سبب نزولها؟ (قَالَ: نَزَلَتْ فِي) غزوة (بَدْرٍ). وروى أبو داود والنَّسائيُّ وابن جريرٍ وابن مردويه _واللَّفظ له_ وابن حِبَّان والحاكم، من طرقٍ عن داود بن أبي هندٍ عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا كان يوم بدرٍ؛ قال رسول الله صلعم : «من صنع كذا وكذا؛ فله كذا وكذا»، فتسارع(2) في ذلك شبَّان الرجال، وبقي الشُّيوخ تحت الرَّايات، فلمَّا كانت الغنائم؛ جاؤوا يطلبون الذي جُعِلَ لهم / ، فقالت(3) الشُّيوخ: لا تستأثِروا علينا؛ فإنَّا كنَّا ردءًا لكم، لو انكشفتم؛ فِئْتُم(4)، فتنازعوا، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}... إلى قوله: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[الأنفال:1].
          ({الشَّوْكَةِ}) في قوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (5)}[الأنفال:7] (الحَدُّ) بالحاء المهملة، أي: تُحبُّون أنَّ الطَّائفة التي لا حدَّ لها ولا مَنَعة ولا قتال _وهي العير_ تكون(6) لكم(7)، وتكرهون ملاقاة النَّفير لكثرة عَدَدهم‼ وعُدَدهم، وهذا ساقطٌ لأبي ذرٍّ.
          وقوله: ({مُرْدِفِينَ}[الأنفال:9]) بكسر الدال، أي: متَّبعين، من أردفته إذا اتَّبعته أو جئت بعده (فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ) يقال: (رَدِفَنِي) بكسر الدَّال (وَأَرْدَفَنِي) أي: (جَاءَ بَعْدِي) وعن ابن عبَّاسٍ: وراء كلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ، وعنه _ممَّا رُوي من طريق عليِّ بن أبي طلحة_ قال: وأمدَّ الله تعالى نبيَّه صلعم والمؤمنين بألفٍ من الملائكة، وكان جبريل في خمس مئةٍ من الملائكة مجنِّبةٍ، وميكائيل في خمس مئةٍ مجنِّبةٍ.
          (ذُوقُوا) يريد قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ}[الأنفال:14] أي: (بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا) أي: العذابَ العاجل؛ من ضرب الأعناق، وقطع الأطراف (وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الفَمِ).
          وقوله: ({فَيَرْكُمَهُ}[الأنفال:37]) قال أبو عُبيدة: أي: (يَجْمَعُهُ) ويضمَّ بعضه على بعضٍ، أو يجعل الكافر مع ما أنفق للصدِّ عن سبيل الله إلى جهنَّم؛ ليكون المال عذابًا عليه؛ لقوله(8) تعالى: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ}[التوبة:35].
          (شَرِّدْ) يريد قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}[الأنفال:57] قال أبو عبيدة أي: (فَرِّقْ) وقال عطاء(9): غلِّظ عقوبتهم وأثخِنْهم قتلًا؛ ليخافَ مَن سواهم مِن(10) العدوِّ.
          ({وَإِن جَنَحُواْ}) أي: (طَلَبوا، السِّلْمُ والسَّلْمُ والسَّلَامُ(11) وَاحِدٌ) وهذا ثابتٌ للأبوين { لِلسَّلْمِ}[الأنفال:61] للصُّلح.
          ({يُثْخِنَ}) {فِي الأَرْضِ}[الأنفال:67] قال أبو عبيدة أي: (يَغْلِبَ) بكثرة القتل في العدوِّ والمبالغة فيه حتَّى يذلَّ الكفر ويعزَّ الإسلام.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ} ({مُكَاء}[الأنفال:35]): هو (إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، {وَتَصْدِيَةً}: الصَّفِيرُ) كذا رواه عبد بن حميدٍ عن مجاهدٍ، وعن ابن عمر _ممَّا رواه ابن جريرٍ_: المُكَاء: الصَّفير، والتَّصدية: التَّصفيق، وعن ابن عبَّاسٍ _ممَّا(12) رواه ابن أبي حاتمٍ_: «كانت قريشٌ تطوف بالبيت عُراةً، تُصفِّر وتُصفِّق».
          ({ لِيُثْبِتُوكَ}[الأنفال:30]) أي: (لِيَحْبِسُوكَ) وما رُوِي عن عبيد بن عميرٍ(13): أنَّ قريشًا لمَّا ائتمروا بالنبيِّ صلعم ليُثْبِتوه أو يقتلوه أو يُخرِجوه؛ قال له عمُّه أبو طالبٍ: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: «يريدون أن يَسْحَرُوني(14) أو يَقْتلوني أو يُخْرجوني»، فقال: مَن أخبرك بهذا؟ قال: «ربِّي...» الخبر إلى آخره تعقَّبه ابن كثيرٍ بأنَّ ذكر أبي طالبٍ فيه غريبٌ جدًّا، بل مُنْكَرٌ؛ لأنَّ هذه الآية مدنيَّةٌ، وهذه القصَّة إنَّما كانت ليلة الهجرة بعد موت أبي طالبٍ بنحو ثلاث سنين، وذكر ابن إسحاق عن ابن عبَّاسٍ: أنَّهم اجتمعوا في دار النَّدوة، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخٍ نجديٍّ، فقال بعضُهم: تحبسونه في بيتٍ وتسدُّون منافذه(15) غيرَ كوَّةٍ تُلقون إليه طعامه وشرابه منها(16) حتَّى يموت، فقال إبليس: بئس الرَّأي؛ يأتيكم من يُقاتلكم من قومه ويُخلِّصه من أيديكم، وقال هشام بن عمرٍو: رأيي أن تحملوه على جملٍ فتُخرِجوه(17) من أرضكم؛ فلا يضرُّكم ما صنع، فقال إبليس(18): بئس الرَّأي؛ يُفسِد قومًا غيركم‼ ويُقاتِلكم بهم، فقال أبو جهلٍ: أنا أرى أن تأخذوا من كلِّ بطنٍ غلامًا وتعطوه سيفًا، فيضربونه(19) ضربةً واحدةً، فيتفرَّق دمه في القبائل، فقال إبليس: صدق هذا الفتى، فتفرَّقوا على رأيه، فأتى جبريل النَّبيَّ صلعم وأخبره بالخبر، وأمره بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكِّره(20) نعمته عليه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (21)}[الأنفال:30] وقد منع بعضهم حديث إبليس وتغيير صورته؛ لأنَّ فيه إعانةً للكفِّار، ولا يليق بحكمة الله تعالى أن يجعل إبليس قادرًا عليه، وأُجيب بأنَّه إذا لم يَبعُد أن يسلِّطَه الله على قريشٍ بالوسوسة فيما صدر منهم؛ فكيف يَبعُد ذلك؟!


[1] قوله: «قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ بكسر الموحَّدة ... وحشيَّة إياسٍ الواسطيُّ»، سقط من (د).
[2] في (د): «فتنازع».
[3] في (س) و(ص): «فقال»، وزيد في (م): «لهم».
[4] في (د): «فشلتم».
[5] {تَكُونُ لَكُمْ}: مثبتٌ من (د).
[6] في (ص) و(م): «يكون».
[7] في (د): «لهم»، وهو تحريفٌ.
[8] في (س) و(ص): «لقوله».
[9] في (ص): «أبو عبيدة»، وليس بصحيحٍ.
[10] «من»: ليس في (س) و(ص).
[11] في (د): «والسَّلامة».
[12] في (د): «فيما».
[13] في (م): «عُمر»، وهو تحريفٌ.
[14] في (ب) و(س): «يسجنوني»، وفي (د): «يسجروني».
[15] في (د): «منافسه».
[16] «منها»: سقط من (د).
[17] في (د): «فيخرج».
[18] «إبليس»: مثبتٌ من (د).
[19] في (ب) و(س): «فيضربوه»، وفي غير (د): «فيضر به».
[20] في غير (ب) و(س): «يذكر».
[21] { أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}: مثبتٌ من (د).