إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك

          4975- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) المروزيُّ (قَالَ: وَ(1)حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”أَخْبَرنا“ (عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همَّام قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو ابنُ راشدٍ (عَنْ هَمَّامٍ) هو ابنُ منبِّه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) زادَ أبو ذرٍّ والوقتِ والأَصيليُّ وابنُ عساكر: ”قالَ الله تعالى“ كمَا في الفَرْع كأصله(2): (كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ) المنكرُ للبعثِ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) التَّكذيب (وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) ”الشَّتم“ وثبتَ ذلك للكُشمِيهنيِّ (أَمَّا(3)) ولأبي ذرٍّ: ”فأمَّا“ (تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ) بغير فاء قبل همزة «أن»، وبه استدلَّ من جوَّز حذف الفاء من جواب «أمَّا» (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ) بغير فاء أيضًا: (اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ولمْ يكُن لهُ“ على طريقِ الالتفاتِ ({لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:3-4]) قدَّم {لَمْ يَلِدْ} وإن كان العُرف سَبْق المولود؛ لأنَّه الأهمُّ؛ لقولهم(4): {وَلَدَ اللهُ}[الصافات:152] وقوله: {لَمْ يَلِدْ} كالحجَّة على أنَّه لم يلد، وقال في هذهِ السُّورة: {لَمْ يَلِدْ} وفي الإسراءِ: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}[الإسراء:111] لأنَّ من النَّصارى من يقول: عيسى ولدُ الله حقيقةً، ومنهم من يقول: إنَّ الله اتَّخذه ولدًا تشريفًا، فنفى الأمرين، وسقط قوله: «{لَمْ يَلِدْ}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ.
          ({كُفُوًا}) بضمَّتين(5) (وَكَفِيئًا) بفتح الكاف وبعد الفاء المكسورة تحتية فهمزة بوزن فعيل (وَكِفَاءً) بكسر الكاف وفتح الفاء ممدودًا (وَاحِدٌ) في المعنى.
          ونقل في «فتوح الغيب» عن الغزاليِّ أنَّه قال: الواحدُ هو الواحدُ الَّذي هو مدفوع الشَّركة، والأحدُ الَّذي لا تركيبَ فيه، فالواحدُ نفيٌ للشَّريك والمِثْل، والأحدُ نفيٌ للكثرةِ في ذاتهِ، فالصَّمد الغنيُّ المحتاجُ إليه غيره، وهو أحديُّ الذَّات، وواحديُّ الصِّفات؛ لأنَّه لو كان له شريكٌ في ملكهِ لما كان غنيًّا يحتاجُ إليه غيرهُ، بل كان محتاجًا في(6) قوامهِ ووجودهِ إلى أجزاء تركيبيَّةٍ(7)، فالصَّمد(8) دليلٌ على الوحدانيَّة(9) والأحديَّة، و{لَمْ يَلِدْ} دليلٌ على أنَّ وجودهُ المستمر ليس مثل وجودِ الإنسان الَّذي يبقى نوعهُ(10) بالتَّوالد والتَّناسل، بل هو وجودٌ مستمرٌّ أزليٌّ أبديٌّ، و{وَلَمْ يُولَدْ} دليلٌ على أنَّ وجودهُ ليسَ مثل وجودِ الإنسان(11) الَّذي يتحصَّل بعد العدم، ويبقى دائمًا إمَّا في جنَّةٍ عاليةٍ لا يفنى، وإمَّا في هاويةٍ لا ينقطعُ {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4] دليلٌ على أنَّ الوجودَ الحقيقيَّ الَّذي(12) له تعالى هو الوجودُ الَّذي يُفيد وجود غيرهِ، ولا يستفيد(13) / الوجودَ من غيره، فقوله تعالى: { اللهُ أَحَدٌ} دليلٌ على إثباتِ ذاتهِ المقدَّسة(14) المنزَّهة، والصَّمديَّة تقتضِي نفي الحاجة عنه، واحتياجَ غيرِه إليه‼، و{لَمْ يَلِدْ}... إلى آخرِ السُّورة سلب ما يوصَف به غيرهُ عنه، ولا طريقَ في معرفتهِ تعالى أوضح من سلبِ صفاتِ المخلوقاتِ عنه.
          ولمَّا اشتملتْ هذه السُّورة _مع قصرهَا_ على جميعِ المعارفِ الإلهيَّة، والردِّ على من ألحدَ فيها؛ جاء أنَّها تعدلُ ثلثَ القرآنِ، كما سيأتي ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى في «كتاب فضائلِ القُرآن» [خ¦5013] وهل يحملُ ذلك على الإجزاءِ أم(15) على غيرِها؟ فذهب الفقهاءُ والمفسِّرون إلى أنَّ لقارئها من الثَّواب ثلث ما لقارئ جملته، وليس في الجوابِ أكثر من أنَّ الله يهبُ ما يشاءُ لمن يشاء، وأجابَ المتكلِّفون بجوابٍ يمكنُ إرادتهُ، قالوا: القرآنُ ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ فيما يجوزُ أن يوصفَ به وما لا يجوزُ، وقسمٌ من أمر الدُّنيا، وقسمٌ من أمرِ الآخرةِ، ولم تتضمَّن سورة الإخلاصِ غير القسمِ الواحد، فصارت تعدلُ ثلثهُ؛ ولهذا سمِّيت سورة الإخلاصِ؛ لأنَّها خلصت في صفاته خاصَّة، ويأتي مزيدٌ لذلك إن شاء الله تعالى في محلِّه قريبًا بعونِ الله وقوَّته، وسقط قوله: «كفؤًا وكفيئًا...» إلى آخره لغير أبي ذرٍّ.


[1] «و»: ليست في (ب) و(س).
[2] «كأصله»: ليست في (م) و(د).
[3] في (د): «وأما».
[4] في (م) و(ب): «كقولهم».
[5] بضم الكاف والفاء مع الهمز على قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وشعبة والكسائي وأبي جعفر عن عاصم.
[6] في (د): «إلى».
[7] في (ص): «تركيبه» كذا في فتوح الغيب.
[8] في (ل): «فالصَّمديَّة».
[9] في (د): «الواحديَّة».
[10] قوله: «الذي يبقى نوعه»: ليس في (ص).
[11] قوله: «بالتوالد... الإنسان»: ليس في (ص) و(م).
[12] في (ص) زيادة: «هو».
[13] في (د): «يفيد».
[14] في (م) زيادة: «ولا يبقى نوعه بالتأول والتناسل، بل هو وجود فيستمر أزلي وأبدي، {وَلَمْ يُولَدْ} دليل على أن وجوده ليس مثل وجود الإنسان المجرد من غيره، فقوله تعالى: { اللهُ أَحَدٌ} دليل إثبات ذاته المقدسة»، وهي تكرار.
[15] في (ب) و(س): «أو».