إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت

          4780- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ: ”حدَّثنا“ (إِسْحَاقُ ابْنُ نَصْرٍ) هو إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ نصرٍ البخاريُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حمَّادُ بنُ أسامةَ (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمانَ أنَّه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ) ذكوانُ السَّمَّان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه قال: (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ) في الجنَّة (مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) وفي حديث المغيرةِ بنِ شعبةَ عند مسلمٍ مرفوعًا: «قال موسى ◙ : يا رب؛ ما أدنى أهل الجنة منزلة؟...» الحديث إلى أن قال: «فأعلاهم منزلةً؟ قال: الذين أردت غرستُ كرامتَهم بيدي، وختمت عليها، فلم تَرَ عينٌ، ولم تسمع أُذُنٌ، ولم يخطُرْ على قلبِ بشرٍ» (ذُخْرًا) بضمِّ الذال وسكون الخاء المعجمتين، كذا في الفرع، وقال في «الصِّحاح» في فصل الذال المعجمة: ذَخَرْتُ الشَّيءَ أَذْخُرُه ذُخْرًا، وكذلك(1) أَذْخَرتُه، وهو «افتعلت»، وقولُ الحافظ ابن حجر: بضمِّ المهملة وسكون المعجمة؛ سهوٌ أو سبقُ قلمٍ، وقال الكِرمانيُّ: و«ذُخْرًا» منصوبٌ متعلِّقٌ بـ «أعددتُ»، وقال في «الفتح» أي: جعلتُ ذلك لهم مدخورًا (بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ)‼ بضمِّ الهمزة وكسر اللَّام، ولأبي الوقت: ”ما أَطْلَعْتُهُم“ بفتح الهمزة واللَّام وزيادة هاء بعد التاء(2)، وقوله: «بَلْهَ» بفتح الموحَّدة وسكون اللَّام وفتح الهاء، وللأربعة: ”مِن بَلْهِ“ بزيادة «مِن» الجارَّة، وجَرَّ «بله» بها، كذا في الفرع المعتمد المقابَل على أصل اليونيني المحرَّر بحضرة إمام العربيَّة أبي عبد الله بن مالك، وكذا رأيتُه في أصل اليونيني المذكور(3)، وحينئذٍ فينظر في قول الصَّغانيِّ: اتَّفق جميعُ نُسَخِ «الصحيح» على «مِن بَلْه»، والصواب: إسقاط كلمة «مِن»، وقول ابن التين: إنَّ «بَلْهَ» ضبط مع «مِن» بالفتح والكسر، هو حكايةُ ما وجدَه / ، فلا يمنعُ ما ذكرتُه مِنَ الفتحِ مع عدمِ الجارِّ، والكسرِ مع ثبوتِه، فأمَّا الفتحُ؛ فقال الجوهريُّ: وبَلْهَ كلمةٌ مبنيَّةٌ على الفتح مثل: كيف، ومعناها: دَعْ، وأنشد قولَ كعبِ بنِ مالكٍ يَصِفُ السيوف:
تَذَرُ الجَمَاجِمَ ضاحيًا هاماتُها                     بَلْهَُِ الأكفِّ كأنَّها لم تُخلَقِ
قال في «المغني»: وقد رُوِيَ بالأوجه الثلاثة، قال شارحه: ومعنى بَلْهَ الأكف على رواية النصب: دَعِ الأكف، فأمرُها سهلٌ، وعلى رواية الجرِّ: كترك(4) الأكف منفصلة، وعلى الرفع: فكيف الأكف التي يوصل إليها بسهولة.
          وأمَّا وجه الفتح مع ثبوت «مِن» فقال الرضي: إذا كانت «بله» بمعنى: كيف؛ جاز أن تدخله «من»، حكى أبو زيد أن فلانًا لا يُطيق حمل الفهر، فمِن بَلْهَ أن يأتي بالصخرة، أي: كيف؟ ومن أين؟ قال في «المصابيح»: وعليه تتخرَّج هذه الرواية، فتكون(5) بمعنى «كيف» التي يُقصد بها الاستبعاد، و«ما» مصدريَّة، وهي مع صلتها في محلِّ رفعٍ على الابتداء، والخبرُ «من بله»، والضمير المجرور بـ «عليـه» عائدٌ على الذُّخْر، أي: كيف ومِن أين اطِّلاعُكم على ما ادَّخرتُه لعبادي الصالحين؟ فإنَّه أمرٌ عظيم قلَّما تتسع عقول البشر لإدراكه والإحاطة به، قال: وهذا أحسن ما يقال في هذا المحل. انتهى. وأمَّا الجرُّ؛ فوُجِّه بأنَّ «بله» بمعنى غير، والكسرة التي على الهاء حينئذٍ إعرابيَّة، قال في «الفتح»: وهو _أي: كون «بله» بمعنى غير_ أوضحُ التوجيهات؛ لخصوص سياق حديث الباب حيث وقع فيه: «ولا خطر على قلب بشر ذخرًا من بله ما أُطلعتم عليه» وذلك بيِّنٌ لِمَنْ تأمَّله. انتهى. وقال أبو السعادات في «نهايته»: بله: اسمٌ مِن أسماء الأفعال بمعنى: دع واترك، تقول: بله زيدًا، وقد توضع موضع المصدر وتضاف، فتقول: بله زيد، أي: ترك زيد، وقوله: «ما اطَّلعتم عليه» يُحتملُ أن يكون منصوب المحلِّ ومجرورَه على التقديرين، والمعنى: دع ما اطلعتم‼ عليه مِن نعيم الجنَّة وعرفتموه من لذاتها. انتهى. زاد الخطَّابيُّ: فإنَّه سهلٌ يسيرٌ في جنب ما ادَّخرتُه لهم.
          (ثُمَّ قَرَأَ) ╕ : ({فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17]) {جَزَاء} مفعولٌ له، أي: أُخفِيَ للجزاء، فإنَّ إخفاءَه لعلوِّ شأنه، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى(6) الجملة قبلَه، أي: جُزُوا جزاءً، وقولُ الزمخشريِّ: فحَسَمَ أطماعَ المتمنِّين؛ يعني: بقوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} نزعةٌ اعتزاليَّةٌ، ومرادُه بـ «المتمنين»: أهلُ السُّنَّة القائلين بأنَّ المؤمنَ العاصي موعودٌ بالجنَّة لا بُدَّ له منها، وفاءً بعهدِه تعالى؛ لأنَّه وعدَه بها، ووعدُه حقٌّ، وجعلَ العملَ كالسبب للوعد، فعبَّر به في قوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عنه؛ لصدق الوعد في النفوس، وتصويره بصورة المستحَقِّ بالعمل كالأجرة مِن مجاز التشبيه، وعند أبي ذرٍّ تقديم: ”حدَّثني إسحاق بن نصر...“ إلى آخره، {يَعْمَلُونَ} على قوله: ”قال أبو معاوية عن الأعمش“(7).
          وهذا الحديث من أفراده.


[1] في (د): «وكذا».
[2] في (د) و(ص) و(ل) و(م): «العين».
[3] قوله: «وكذا رأيته في أصل اليونيني المذكور»: ليس في (د) و(م).
[4] في (د): «اترك».
[5] «فتكون»: ليس في (ب).
[6] في (د): «بمعنى»، والصواب المثبت.
[7] قوله: «وعند أبي ذرٍّ تقديم: حدَّثني إسحاق بن نصر... إلى آخر {يَعْمَلُونَ} على قوله: قال أبو معاوية عن الأعمش»، سقط من (د).