إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ما جاء في فاتحة الكتاب

          ░1▒ (باب مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الكِتَابِ) أي: من الفضل / ، أو من التَّفسير، أو أعمَّ من ذلك، و«الفاتحة» في الأصل إمَّا مصدرٌ كالعافية(1)، سُمِّي بها أوَّل ما يفتتح به الشَّيء؛ من باب إطلاق المصدر على المفعول، والتَّاء للنَّقل إلى الاسميَّة، وإضافتها إلى «الكتاب» بمعنى: «مِنْ» لأنَّ أوَّل الشَّيء بعضه، ثمَّ جُعِلت عَلمًا للسُّورة المعيَّنة؛ لأنَّها أوَّلُ الكتابِ المُعْجِز، قاله بعضُهم، وسقط لفظ «باب» لأبي ذرٍّ (وَسُمِّيَتْ أُمَّ الكِتَابِ أَنَّهُ) بفتح الهمزة، أي: لأنَّه (يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي المَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ) هذا كلام أبي عبيدة في «المجاز»، وكره أنسٌ والحسن وابن سيرين تسميتها بذلك، قال الأوَّلان: إنَّما ذلك اللوح المحفوظ، وأجيب بأنَّ في حديث أبي هريرة ╩ : قال رسول الله صلعم : «الحمد لله أمُّ القرآن وأمُّ الكتاب» صحَّحه التِّرمذيُّ، لكن قال السَّفاقسيُّ: هذا التَّعليل(2) مناسبٌ لتسميتها بـ «فاتحة الكتاب» لا بـ «أمِّ الكتاب» وقد ذكر بعض المحقِّقين أنَّ السَّبب في تسميتها «أمَّ الكتاب» اشتمالها على كلِّيَّات المعاني التي في القرآن؛ من الثَّناء على الله تعالى، وهو ظاهرٌ، ومن التَّعبُّد بالأمر والنَّهي، وهو في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة:5] لأنَّ معنى العبادة: قيام العبد بما تُعبِّد به وكُلِّفَه من امتثال الأوامر والنَّواهي، وفي: {الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}[الفاتحة:6] أيضًا(3)، ومن الوعد والوعيد وهو في: {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} وفي: {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}[الفاتحة:7] وفي: {يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] أي: الجزاء أيضًا، وإنَّما كانت الثَّلاثةُ أصول مقاصد القرآن؛ لأنَّ الغرض الأصليَّ الإرشاد إلى المعارف الإلهيَّة وما به نظام المعاش ونجاة المعاد، والاعتراض بأنَّ كثيرًا من السُّور كذلك يندفع بعدم المساواة؛ لأنَّها فاتحة الكتاب وسابقة السُّور، وقد اقتصر مضمونها على كليَّات المعاني الثَّلاثة بالتَّرتيب على وجهٍ إجماليٍّ؛ لأنَّ أوَّلها ثناءٌ وأوسطها تعبُّدٌ وآخرها وعدٌ ووعيدٌ، ثمَّ يصير ذلك مفصَّلًا في سائر السُّور، فكانت منها بمنزلة مكَّة من سائر القرى، على ما رُوي من أنَّها مُهِّدت أرضها، ثمَّ دُحِيت الأرض من تحتها، فتتأهَّل(4) أن تُسمَّى‼ أمَّ القرآن؛ كما سُمِّيت مكَّة أمَّ القرى. انتهى. وما قاله المؤلِّف هو معنى قول(5) البيضاويِّ: وتُسمَّى أمَّ القرآن؛ لأنَّها مُفتَتَحه ومبدؤه، أي: يُفتتح بها كتابة المصاحف(6)، ويُبدأ بقراءتها في الصَّلاة، وقيل: لأنَّها تفتح أبواب الجنة، ولها أسماءٌ أُخَر لا نُطيل بها.
          (وَالدِّينُ: الجَزَاءُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ) وسقطت «الواو» لأبي ذرٍّ، وهذا(7) رواه عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عن أيوب عن أبي قِلابة، عن النَّبيِّ صلعم ، وهو مرسلٌ، رجاله ثقاتٌ، ورواه عبد الرَّزَّاق بهذا الإسناد أيضًا عن أبي قِلابة عن أبي الدَّرداء موقوفًا، وأبو قِلابة لم يدرك أبا الدَّرداء، لكن له شاهدٌ موصولٌ من حديث ابن عمر، أخرجه ابن عديٍّ وضعَّفه، وفي المثل: (كَمَا تَدِينُ تُدَانُ) الكاف في موضع نصبٍ نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تدين دينًا مثل دينك، وهذا من كلام أبي عبيدة أيضًا كسابقه، وهو حديثٌ مرفوعٌ أخرجه ابن عديٍّ في «الكامل» بسندٍ ضعيفٍ من حديث ابن عمر مرفوعًا(8) _وله شاهدٌ من مرسل أبي قِلابة_ قال: قال رسول الله صلعم : «البرُّ لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والدَّيَّان لا يموت، فكُنْ كما شئت، كما تدين تُدان» رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه» وأخرجه البيهقيُّ(9) في «كتاب الأسماء والصِّفات» من طريقه، ومعناه: كما تَعمل تُجازَى، وفي «الزُّهد» للإمام أحمد عن مالك بن دينارٍ موقوفًا: مكتوبٌ في التَّوراة: «كما تدين تُدَان، وكما تزرع تحصد».
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله عبد بن حميدٍ من طريق منصورٍ عنه في قوله: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ} ({بِالدِّينِ}[الانفطار:9]) أي: (بِالحِسَابِ) ومن طريق ورقاء عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ أيضًا في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ} ({مَدِينِينَ}[الواقعة:86]) بفتح الميم، أي: (مُحَاسَبِينَ).


[1] في (د): «كالعاقبة»، وكلاهما صحيحٌ.
[2] قوله: «هذا التعليل» يعود على قول البخاري: «وسميت أم الكتاب أنه يُبدأ بكتابتها في المصاحف» كما هو واضح في مصابيح الجامع (8/149).
[3] «أيضًا»: ليس في (س).
[4] في (ب) و(د): «فتستأهل».
[5] في (د): «ما قاله».
[6] في (ب): «المصاحب» وهو تصحيفٌ.
[7] هذا أخذه المؤلف من الفتح، وقاله الحافظ ابن حجر في الفتح عن المثل «كما تدين تدان» الآتي بعد سطرين. وأما قوله: «الجزاء في الخير والشر» فأشار الحافظ إلى أنه من كلام أبي عبيدة، فتأمل.
[8] في (د): «موقوفًا» ولعلَّه تحريفٌ.
[9] في (د) و(م): «السُّهيليُّ» والمثبت هو الصَّواب.