الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها؟

          ░111▒ (باب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ) أي: هل يجوزُ أن يسافِرَ الرجلُ بجاريةٍ ملَكَها (قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؟) بالهمز؛ أي: بحَيضةٍ، ولم يجزِمِ المصنِّفُ بالحُكمِ؛ للاختِلافِ فيه، كما سيأتي بيانُه (وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ) أي: البَصريُّ مما وصلَه ابنُ أبي شيبةَ.
          (بَأْساً) أي: حَرَجاً (أن يُقبِّلَها) بتشديد الموحدة المكسورة؛ أي: الجاريةَ (أو يُباشِرَها) أي: فيما دونَ الفَرْجِ قبل أن يستبرئَها، و((أو)) بمعنى الواو الموجودةِ في بعضِ الأصول، ويحتمِلُ أنَّ الواوَ بمعنى: ((أو))، فافهَمْ.
          والمباشَرةُ أعَمُّ من التَّقبيلِ والوَطْءِ في الفَرْجِ، لكن المرادُ بها هنا ما عدا الوَطْءَ؛ إذ لا يجوزُ قبل استِبرائها على ما فيه مما يأتي لأجلِ براءةِ رَحِمِها، ويؤيِّدُه: ما رواه عبدُ الرزاقِ بسَندِه إلى الحسَنِ بلفظِ: يُصيبُ ما دونَ الفَرْجِ، ولفظُ ابنِ أبي شَيبةَ بسَندِه عن ابنِ عُلَيَّةً قال: سُئلَ يونُسُ عن الرجلِ يشتري الأمَةَ فيستبرِئُها، يُصيبُ منها القُبلةَ والمباشَرةَ، فقال ابنُ سيرينَ: يُكرَهُ ذلك، ويذكَرُ عن الحسَنِ أنه كان لا يَرى بالقُبلةِ بأساً، قال الدَّاوديُّ: قولُ الحسَنِ: إن كان في المسبيَّةِ فصوابٌ، وتعقَّبَه ابنُ التِّينِ بأنه لا فرقَ في الاستبراءِ بين المسبيَّةِ وغيرِها.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابنِ الخطَّابِ ☻ (إِذَا وُهِبَتِ) بالبناء للمفعول وتاء التأنيث (الْوَلِيدَةُ) بفتح الواو وكسر اللام فتحتية ساكنة؛ أي: الجاريةُ (الَّتِي تُوطَأُ) بالبناء للمفعول وهمز آخره؛ أي: الثيِّبُ (أَوْ بِيعَتْ) بكسر الموحدة من غير همز بعد ((أو)) (أَوْ عَتَقَتْ) بالبناء للفاعل، وفي بعض الأصُول: <أو أُعتِقَت> بزيادة همزةٍ بعدُ، وقيل: بضم العين، قال العَينيُّ كابن الملقِّن: وليس بشيءٍ.
          (فَلْيُسْتَبْرَأْ) بالبناء للمفعول وللفاعل كما قاله العَينيُّ وغيرُه مجزوماً بلامِ الأمر (رَحِمُهَا) مرفوعٌ ومنصوبٌ (بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ) بفوقية أولَه (الْعَذْرَاءُ) يجري فيهما مثلُ ما مرَّ آنِفاً، لكن على البناء للمفعول ((لا)) نافيةٌ، و((العَذْراءُ)) بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة والمد؛ أي: البِكرُ، فكان ابنُ عمرَ يرى أنَّ البَكارةَ تَمنعُ من الحَمْلِ، أو تدُلُّ على عدَمِ الوَطْءِ، فلذا لم يوجِبِ استِبراءَها، ونوقِشَ بأنَّه على تقديرِ تسليمِهِ، ففي الاستِبراءِ شائبةُ تعبُّدٍ، كما في الصَّغيرةِ والآيسةِ، ويحتمِلُ أنَّ العَذْراءَ حامِلٌ لاستِدخالِ المنِيِّ، قاله شيخُ الإسلامِ وغيرُه.
          وقال ابنُ الملقِّن: قال أيُّوبُ اللَّخْميُّ: وقعَتْ في سَهمِ ابنِ عمرَ جاريةٌ يوم جَلُولاءَ، فما ملَكَ نفسَه أن جعَلَ يقبِّلُها، قال ابنُ بطَّالٍ: ثبَتَ هذا عنه، انتهى.
          تنبيه: أثرُ ابنِ عمرَ هذا وصلَ أوَّلَه ابنُ أبي شَيبةَ عنه، ووصَلَ آخرَه عبدُ الرزَّاق عنه: تُستبرَأُ العَذْراءُ، ووصلَه ابنُ أبي شَيبةَ بسندِه / عنه، قاله في ((الفتح)).
          لكن قال العينيُّ كابنِ الملقِّن قال: إن اشترى أمَةً عَذْراءَ فلا يستبرِئُها، وقال ابنُ التِّينِ: هذا خِلافُ ما يقولُه مالكٌ والشافعيُّ والجمهورُ، وقال الحسَنُ: يستبرِئُها وإن كانت بِكْراً، وكذا قاله عِكرِمةُ، وقال عطاءٌ في رجلٍ اشترى جاريةً من أبوَيها عذراءَ: يستبرِئُها بحَيضتَين، وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ القاسمِ وسالمٌ واللَّيثُ وأبو يوسُفَ: لا استِبراءَ إلا على البالغةِ، وقال ابنُ الجوزيِّ: كان أبو يوسُفَ لا يرى استبراءَ العَذْراءِ وإن كانت بالغةً.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) أي: ابنُ أبي رَباحٍ (لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ) قال ابنُ التِّين: إن أرادَ الحاملَ من سيِّدِها، فهو فاسِدٌ؛ لأنَّه لا يُرتابُ في حَلِّه، وإن أراد مِن غَيرِه وهي مسبيَّةٌ أو زانيةٌ، فسيأتي إذا لم يكُنِ الحَملُ من زوجِها، وفيه خِلافٌ.
          قال في ((الفتح)): والثاني أشبَهُ بمُرادِه، ولذا قيَّدَه بما دونَ الفَرْجِ.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) أي: في القرآن ({إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}) الاستِثناءُ من قولِه: {حَافِظُونَ} أو حالٌ؛ أي: حافِظون لها في جميعِ الأحوالِ إلا في حالِ التزوُّجِ أو التسرِّي، أو متعلِّقةٌ بفعلٍ دلَّ عليه: {غيرُ مَلُومين} قاله البَيضاويُّ.
          ووجهُ استدلالِ البخاريِّ بالآية _كما في ((الفتحِ)) وغيرِه_: أنها دلَّتْ على جَوازِ الاستمتاعِ بجميع وجوهِهِ، لكن خرَجَ الوَطءُ بدليلٍ، وعِبارة الكرمانيُّ: فإن قلتَ: الآيةُ تقتضِي جوازَ إصابةِ الفَرْجِ، وهو خِلافُ قولِ عطاءٍ، فما وجهُ استِدلالِه بها؟ قلتُ: غرَضُه أنَّ الآيةَ لمَّا كانت دالَّةً على جوازِ سائرِ الاستمتاعاتِ ضِمْناً، فخروجُ جوازِ الوطءِ منها بسببِ اشتِغالِ الرَّحِمِ بماءِ الغَيرِ لا يُنافيه، انتهت.