الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تفسير المشبهات

           ░3▒ (بَابُ تَفْسِيرِ المُشَبَّهَاتِ) بضم الميم وفتح الشين والباء الموحدة المشدَّدة، كذا لأكثرِ الرُّواة، ورواه ابنُ عساكرَ: <المُشْتبهات> بضم الميم وسكون الشين وزيادة فوقية بعدها، وللنسفيِّ: بضمتين مخفَّفاً بغير ميم.
          قال في ((الفتح)): لمَّا تقدَّمَ في حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ أنَّ الشُّبهاتِ لا يعلمُها كثيرٌ من النَّاس، واقتضَى ذلك أنَّ بعضَ النَّاسِ يعلمُها، أراد المصنِّفُ أن يعرفَ الطَّريقَ إلى معرفتِها لتُجتنَبَ، فذكرَ أولاً ما يضبِطُها، ثم أوردَ أحاديثَ يؤخَذُ منها مراتبُ ما يجبُ اجتنابُه منها، ثم ثنَّى ببابٍ فيه بيانُ ما يستحَبُّ منها، ثم ثلَّثَ ببابٍ فيه بيانُ ما يكرَهُ، وبيانُ ذلك: أنَّ الشيءَ إمَّا أن يكونَ أصلُه التحريمَ أو الإباحةَ أو يشَكُّ فيه، فالأول: كالصيد؛ فإنه يحرُمُ أكلُه قبل ذكاتِه، فإذا شُكَّ فيها لم يزَلْ على التحريم إلا بيقينٍ، وإليه الإشارةُ بحديثِ عَديِّ بنِ حاتمٍ، والثاني: كالطهارة؛ إذا حصلَتْ لا تُرفعُ إلا بيقينِ الحدَث، وإليه الإشارةُ بحديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ في الباب الثالث، ومن أمثلتِه مَن له زوجةٌ أو عبدٌ، وشكَّ هل طلَّقَ أو أعتَقَ، فلا عبرةَ بذلك، وهما على مِلكِه، والثالث: ما لا يُتحقَّقُ أصلُه، ويتردَّدُ بين الحظر والإباحة، فالأَولى تركُه، وإليه الإشارةُ بحديثِ التمرةِ الساقطةِ في الباب الثاني.
          (وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ) بكسر السين المهملة ونونين بينهما ألف، البَصريُّ، أحدُ العُبَّاد في زمن التابعين، ويجوزُ في ((حسَّانَ)) الصرفُ وعدَمُه، بخلافِ سنانٍ، فإنه مصروفٌ لا غيرُ، فافهم، وليس له في البخاريِّ إلا هذا الموضعُ، ولم يلقَ أحداً من الصحابةِ ♥.
          (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ) بفتح ياء ((يريب)) في الموضعين على الأفصح، وماضيه: رابه، ويجوزُ ضمُّها فيهما على أنَّ ماضيه: أرابه، وهما بمعنى: الشكِّ والتردُّد.
          قال في ((الفتح)): قد ورد قولُه: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)) مرفوعاً، أخرجه الترمذيُّ والنسائيُّ وأحمدُ وابنُ حبَّان والحاكمُ من حديثِ الحسَنِ بنِ عليٍّ، وقال ابنُ الملقِّن: قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وقال الحاكمُ: صحيحُ الإسناد، وشاهدُه حديثُ أبي أُمامةَ: ((أنَّ رجلاً سألَ رسولَ الله؛ ما الإيمان؟ قال: إذا سرَّتْك حسنتُكَ، وساءتكَ سيئتُك، فأنت مؤمنٌ، قال: يا رسولَ الله؛ ما الإثمُ؟ قال: إذا حاك في صدرِكَ شيءٌ فدَعْه)) وروى محمدُ بنُ أسلمَ في كتابِ ((الرِّبا)) بسندِه عن عبد الرحمن بنِ معاويةَ بنِ حُديجٍ: أنَّ رسولَ الله صلعم قال لمَنْ سألَه عما يحلُّ له: ((ما أنكَرَ قلبُك فدَعْه)) انتهى.
          وأثرُ حسَّانَ وصلَه أحمدُ في ((الزهد))، وأبو نُعيمٍ في ((الحِلية)) عنه بلفظ: ((إذا شككتَ في شيءٍ فاترُكْه)) قال: ولأبي نُعيمٍ من وجهٍ آخرَ: اجتمعَ يونسُ بنُ عُبيدٍ وحسانُ بنُ أبي سِنانٍ، فقال يونس: ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من الورع، فقال حسَّانُ: ما عالجتُ شيئاً أهوَنَ عليَّ منه، قال: كيف؟ قال حسَّانُ: تركتُ ما يَريبُني إلى ما لا يَريبُني، فاسترحتُ.
          قال بعضُ العلماء: تكلَّمَ حسَّانُ على قَدْرِ مَقامِه، والتَّركُ الذي أشار إليه أشدُّ على كثيرٍ من النَّاس من تحمُّلِ كثيرٍ من المشاقِّ الفعليَّة، انتهى.
          وروى الترمذيُّ من حديث عطيَّةَ السَّعديِّ مرفوعاً: ((لا يبلُغُ العبدُ أن يكونَ من المتَّقين حتى يدَعَ ما لا بأسَ به / حذَراً مما به بأسٌ)).