الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ولم ينكر

           ░47▒ (بَابٌ: إِذَا اشْتَرَى) أي: الشخصُ (شَيْئًا فَوَهَبَ) أي: فوهبَه، والمعنى: فوهبَ المشتري ذلك الشيءَ لشخصٍ (مِنْ سَاعَتِهِ) أي: فوراً (قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا) وجملةُ: (وَلَمْ يُنْكِرِ البَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي) حاليةٌ (أَوِ اشْتَرَى) أي: الشخصُ، عطفٌ على ((اشترى)) الأولى (عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) أي: فأعتق المشتري العبدَ من ساعتِه فوراً، ولم يُنكرِ البائعُ عليه، وجوابُ: ((إذا)) محذوفٌ تقديرُه بعد الجملتَين؛ أي: ينقطِعُ خيارُ البائعِ بذلك؛ أي: لرِضاه بذلك، حيث لم ينكِرْ على المشتري، وهو أَولى من تقدير ((الفتح)) له بين الجملتَين، فتدبَّر.
          وقال العينيُّ: وإنما لم يذكُرْ جوابَ ((إذا)) لمكانِ الاختلافِ فيه، فإنَّ المالكيَّةَ والحنفيَّةَ جعلوا القبضَ في جميعِ الأشياءِ بالتَّخليةِ، وعند الشافعيَّةِ والحنابلةِ: تكفي التخليةُ في الدُّورِ والعَقارِ دون المنقولاتِ، انتهى.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: أجمَعوا على أنَّ البائعَ إذا لم يُنكرْ على المشتري ما أحدثَه من الهِبةِ أو العتقِ أنه بيعٌ جائزٌ، واختلفوا فيما إذا أنكَرَ ولم يرضَ، فالذين يرَونَ أنَّ البيعَ يتِمُّ بالكلامِ دونَ اشتراطِ التفرُّقِ بالأبدان يُجيزون ذلك، ومَن يرى التفرُّقَ بالأبدانِ لا يُجيزونَه، والحديثُ حُجَّةٌ عليهم، انتهى.
          واعترضه في ((فتح الباري)) فقال: وليس الأمرُ على ما ذكرَه من الإطلاق، بل فرَّقوا بين المبيعات، فاتفقوا على منعِ بيعِ الطعامِ قبل قبضِه، كما سيأتي، واختلفوا فيما عداه على مذاهبَ:
          أحدُها: لا يجوزُ بيعُ شيءٍ قبل قبضِه مطلَقاً، وهو قولُ الشافعيِّ ومحمد بنِ الحسنِ.
          ثانيهما: لا يجوزُ مطلقاً، إلا الدُّورَ والأرضَ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأبي يوسُفَ.
          ثالثُها: يجوزُ مطلقاً، إلا المكيلَ والموزونَ، وهو قولُ الأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ.
          رابعُها: يجوزُ مطلقاً، إلا المأكولَ والمشروبَ، وهو قولُ مالكٍ وأبي ثورٍ، واختيارُ ابنِ المنذِر.
          واختلفوا في الإعتاق، فالجمهورُ على أنه يصِحُّ الإعتاقُ، ويصيرُ قبضاً، سواءٌ كان للبائعِ حقُّ الحبسِ بأن كان الثمنُ حالًّا ولم يدفَعْ أم لا، والأصحُّ في الوقفِ أيضاً صحَّتُه، وفي الهبةِ والرهنِ خلافٌ، والأصحُّ عند الشافعيَّةِ فيهما أنهما لا يصِحَّان، وحديثُ ابنِ عمرَ في قصَّةِ البعيرِ الصَّعبِ حُجَّةٌ لمقابِلِه، قال: ويمكنُ الجوابُ عنه بأنه يحتملُ أن يكونَ ابنُ عمرَ كان وكيلاً في القبضِ قبل الهِبة، وهو اختيارُ البغَويِّ، لكن لا يلزَمُ من هذا اتِّحادُ القابضِ والمقبِضِ؛ / لأنَّ ابنَ عمرَ كان راكبَ البعيرِ حينئذٍ، انتهى.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): جعلَ المصنِّفُ مسألةَ الهبةِ أصلاً، وألحقَ بها مسألةَ العتقِ؛ لوجودِ النصِّ في مسألة الهبةِ دون العتقِ، والشافعيَّةُ نظروا إلى المعنى في أنَّ للعتقِ قوةً وسِرايةً ليست لغيرِه، ومَن ألحقَ به منهم الهِبةَ قال: إنَّ العتقَ إتلافٌ للماليَّةِ، والإتلافُ قبضٌ، فكذلك الهبةُ.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ) أي: ابنُ كَيسانَ (فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا) أي: باعَ المشتري السِّلعةَ (وَجَبَتْ) أي: ثبتَتِ السِّلعةُ (لَهُ) أي: للمشتري الثاني (وَالرِّبْحُ لَهُ) عطفٌ على فاعل الفعل المستتِر، ويحتملُ أنها من المبتدأ والخبرِ حاليةٌ، وسقطَتْ لابنِ عساكرَ؛ أي: للمشتري الأولِ، والأقربُ: جعلُ الضميرَين للأول، وأثرُ طاوسٍ: وصلَه سعيدُ بنُ منصورٍ وعبدُ الرزاق، عن معمَرٍ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه نحوَه، وزاد عبدُ الرزاق: وعن معمَرٍ، عن أيوبَ، عن ابنِ سِيرينَ: إذا بعتَ شيئاً على الرِّضا، فإنَّ الخيارَ لهما حتى يتفرَّقا عن رِضا.
          قال الكرمانيُّ: قولُه: ((على الرِّضا)): أي: على شَرطِ أنه لو رضيَ به أجازَ العقدَ.
          وقوله: ((وجبَتْ)): أي: السِّلعةُ، أو المبايَعةُ، وفي نسخةِ الصَّغانيِّ: <وجبَ له البيعُ>.