الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: كم يجوز الخيار؟

          ░42▒ (باب: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ) قال في ((الفتح)) كالكِرمانيِّ: _بكسر الخاء المعجمة_، اسمٌ من الاختيارِ أو التَّخييرِ؛ وهو: طلبُ خَيرِ الأمرَين من إمضاءِ البيعِ أو فسخِه، وهو خِياران: خِيارُ المجلسِ وخِيارُ الشَّرطِ، وزادَ بعضُهم: خِيارَ النَّقيصةِ، وهو مندرِجٌ في خيارِ الشَّرطِ، فلا يُزادُ عليه.
          والكلامُ هنا على خيارِ الشَّرطِ، والتَّرجمةُ معقودةٌ لبيانِ مِقدارِ ذلك، وليس في حديثَي البابِ بيانٌ لذلك، انتهى.
          وذلك لأنَّ ((كم)) للعدد، وبقيَ خِيارُ تلقِّي الرُّكبانِ، وخيارُ تفريقِ الصفقةِ؛ كبيعِ حلالٍ وحرامٍ، وخيارُ الدَّوامِ؛ كتلقِّي أحدِ المبيعَين قبلَ القبضِ، وخيارُ العَجزِ عن الثَّمنِ؛ بأنْ عجَزَ عنه المشتري، والمبيعُ باقٍ عنده؛ لحديثِ الشيخَين: ((إذا أفلَسَ الرجلُ، ووجدَ البائعُ سِلعتَه بعينِها، فهو أحقُّ بها من الغُرَماءِ)) وخيارُ فقدِ الوصفِ المشروطِ في المبيعِ؛ كأنِ ابتاعَ عبداً بشَرطِ كونِه كاتباً، فبانَ غيرَ كاتبٍ، وخيارُ الشيءِ المرئيِّ قبلَ العقدِ إذا تغيَّرَ عن صفتِه، والخيارُ لجهلِ الغَصْبِ للمبيعِ مع القدرةِ على انتزاعِه ولطَرآنِ العجزِ عن الانتزاعِ، ولجهلِ كونِ المبيعِ مستأجَراً أو مرهوناً، ولعلَّها تأتي في أبواب.
          وقال ابنُ المنيِّر: لعلَّه أُخذَ من عدمِ تحديدِه في الحديثِ أنه لا يتقيَّدُ، بل يُفوَّضُ الأمرُ فيه إلى الحاجةِ؛ لتفاوُتِ السِّلعِ في ذلك.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: وقد روى البيهقيُّ عن ابنِ عمرَ مرفوعاً: ((الخيارُ ثلاثةُ أيامٍ)) قال: وبه احتُجَّ للشافعيَّةِ والحنفيَّةِ، فإنْ زادَ على ثلاثٍ بطلَ العقدُ، وأنكرَ مالكٌ؛ أي: وأحمدُ التوقيتَ بثلاثةِ أيامٍ بغيرِ الزيادةِ؛ لأنَّ لكلِّ شيءٍ أمَداً بحسبه يتخيَّرُ فيه، فللدَّابةِ والثَّوب مثلاً يومٌ أو يومان، والجاريةُ جمُعةٌ، وللدار شهرٌ، وقال الأوزاعيُّ: يمتدُّ الخيارُ شهراً وأكثَرَ بحسَبِ الحاجةِ، وقال الثوريُّ: يختصُّ الخِيارُ بالمشتري، ويمتدُّ له إلى عشَرةِ أيامٍ وأكثرَ، ويقال: إنه انفردَ بذلك، وقد صحَّ القولُ بامتدادِ الخيارِ عن عمرَ وغيرِه، انتهى.
          وأطال ابنُ بطَّالٍ في الاستدلالِ لأربابِ المذاهب، ويحتمِلُ أنَّ مُرادَ البخاريِّ بقوله: ((كم يجوزُ الخيارُ؟)) أي: كم يخيِّرُ أحدُ المتبايعَينِ الآخرَ مرَّةً، وأشار إلى ما في الطَّريقِ الآتيةِ بعد ثلاثةِ أبوابٍ من زيادةِ همَّامٍ: ((ويختارُ ثلاثَ مِرارٍ)) ولكن لمَّا لم تكُنِ الزيادةُ ثابتةً، أبقى التَّرجمةَ على الاستفهام كعادته، انتهى ما في ((الفتح)).
          واعترضه العينيُّ فقال: هذا الاحتمالُ لا يساعدُ في ذكرِه لفظُ: ((كم)) لأنَّ موضوعَها للعددِ، والعددُ في مدَّةِ الخيارِ لا في تخييرِ أحدِ المتبايعَينِ الآخَرَ، وليس في حديثَي البابِ ما يدلُّ على هذا، وكذا على قوله: وأشار... إلخ، انتهى ملخَّصاً، فتأمَّله.
          وقال ابنُ الملقِّن: أمَّا أمَدُ الخيارِ، فاختلف فيه الفقهاءُ على خمسةِ أقوالٍ:
          أحدُها: أنَّ البيعَ جائزٌ، والشرطَ لازمٌ إلى الأمَدِ الذي اشتُرطَ إليه الخِيارُ، وهو قولُ ابنِ ليلى والحسنِ بنِ صالحٍ وأبي يوسفَ ومحمدٍ وإسحاقَ وأبي ثورٍ.
          ثانيها: قولُ مالكٍ: يجوزُ شَرطُ الخيارِ في بيعِ الثَّوبِ اليومَ واليومَين، وفي الرَّاحلةِ الثلاثةَ، والجاريةِ خمسةً، وفي الرَّقيقِ شهراً، وقيل: عشَرةَ أيامٍ، وفي الدارِ: شهراً.
          ثالثُها: وهو قولُ الثوريِّ وابنِ شُبرُمةَ: / يجوزُ شرطُه للمشتري عشَرةَ أيامٍ وأكثرَ، ولا يجوزُ شَرطُه للبائع.
          رابعُها: وهو قولُ الأوزاعيِّ: يجوزُ إنْ شرطَ الخيارَ شهراً وأكثرَ.
          خامسُها: وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ والليثِ وزُفرَ: الخيارُ في البيعِ: ثلاثةُ أيامٍ، فإن زادَ عليها فسَدَ البيعُ، انتهى ملخَّصاً.
          ثم قال: الكلامُ كلُّه في خيارِ المجلس، أما خِيارُ الشَّرطِ، فثابتٌ بالإجماع، ودليلُه: حديثُ حسَّانَ بنِ مُنقذٍ السَّالفِ، وإنما يجوزُ شَرطِ الخيارِ في البيوعِ التي لا رِبا فيها، أما تلك فلا؛ إذ لو جوَّزناه تفرَّقا، ولم يتِمَّ البيعُ بينهما، انتهى.