الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب موكل الربا

          ░25▒ (بَابُ مُوكِلِ) بسكون الواو وكسر الكاف، اسمُ فاعلِ ((آكَلَ)) بالمدِّ وفتحتَين؛ أي: بابُ بيانِ حُكمِ مُطعِمِ (الرِّبَا) أي: لغيرِه؛ أي: أنه آثِمٌ (لِقَوْلِه تَعَالَى) وفي بعضِ الأصول: <لقولِ الله تعالى> ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}) أي: مطلَقاً، ثم خصَّصَ بقولِه: ({وَذَرُوا}) أي: اترُكوا ({مَا بَقِيَ}) أي: لكم في الذِّمم ({مِنَ الرِّبَا}) و{مِنَ الرِّبَا} بيانٌ لـ{مَا بَقِيَ} قال في ((الكشاف)): قرأ الحسَنُ: ▬ما بقا↨ بقلبِ الياءِ ألفاً على لغةِ طَيِّءٍ، قال: وعنه: ▬ما بقيْ↨ بياءٍ ساكنةٍ، انتهى.
          ({إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}) أي: بقلوبكم، فإنَّ علامتَه امتثالُ الأوامرِ / واجتنابُ النواهي، روي أنه كان لثَقيفٍ مالٌ على بعضِ قريشٍ، فطالبوهم عند المحلِّ بالمالِ أو الرِّبا، فنزلت: ({فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا}) بأن لم تذَروا ما بقيَ من الرِّبا ({فَأْذَنُوا}) أي: فاعلَموا، مِن: أذِن بالشيء _بكسر الذال_: عَلِمَ به، وقُرئَ: ▬فآذِنوا↨ بمد الهمزة وكسر الذال؛ أي: فأعلِموا غيرَكم، وقرأ الحسنُ: ▬فأَيقِنوا↨ ذكرَهما في ((الكشَّاف)).
          ({بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ}) أي: عن تعاطي الرِّبا، أو عنه، ومن اعتقادِ حِلِّه ({فَلَكُمْ رُؤُوسُ}) جمع: رأسٍ؛ أي: أصلُ ({أَمْوَالِكُمْ}) التي رابَيتُم بها ({لاَ تَظْلِمُونَ}) بفتح الفوقية؛ أي: لا يحصُلُ منكم ظلمٌ بأخذِ الزِّيادةِ على رؤوسِ أموالِكم ممن رابَيتُم.
          ({وَلاَ تُظْلَمُونَ}) بالفوقية مبنياً للمفعول؛ أي: لا يظلِمُكم المستدينُ بالمَطْل، أو بالنُّقصانِ عن رؤوسِ أموالِكم، قال البَيضاويُّ: ويفهَمُ منه أنهم إن لم يتوبوا فليس لهم رأسُ مالِهم، قال: وهو سديدٌ على ما قلناه؛ إذ المصِرُّ على التحليل مرتَدٌّ، ومالُه فيءٌ.
          ({وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}) {كَانَ} تامَّةٌ، وقُرئ: ▬وإن كان ذا عُسْرةٍ↨ على أنها ناقصةٌ، ونسَبَها في ((الكشاف)) إلى عثمانَ ☺؛ أي: وإن كان الغريمُ ذا عُسْرةٍ، وقال في ((الكشاف)): وقُرئ: ▬ومَن كان ذا عُسْرةٍ↨.
          ({فَنَظِرَةٌ}) أي: فالحكمُ نظِرةٌ، أو: فعليكم نظِرةٌ، أو: فلتكُنْ نظِرةٌ؛ وهي: الإنظارُ، وقرئ كما في ((الكشاف)): ▬فنظْرةٌ↨ بسكون الظاء، وقرئ: ▬فناظِرُه↨ بالضمير وكسر الظاء، وعزاها في ((الكشاف)) لعطاءٍ؛ أي: فالمستحِقُّ ناظِرُه؛ بمعنى: منتظِرُه، أو صاحبُ نظرتِهِ على النسَبِ، وعنه: وقرئ: ▬فناظِرْه↨ على أنه أمرٌ بالمناظَرةِ؛ أي: فسامِحْه بالانتظار.
          ({إِلَى مَيْسَرَةٍ}) أي: يسَارٍ، وقال ابنُ الملقِّن: وقيل: الموتُ، وقرأ نافعٌ وحمزةُ: بضم السين، وقرئ: ▬مَيسُرِه↨ بضم السين وفتحها مع الإضافة فيهما إلى هاء الضمير من غيرِ تاء، وقال البغَويُّ: وقرأ مجاهدٌ: ▬مَيْسُرَةٍ↨ مضافاً، ومعناه: اليسَارُ والسَّعةُ، انتهى.
          ({وَأَنْ تَصَدَّقُوا}) أي: بإبراءِ المعسِرِ، وقرأ عاصمٌ: بتخفيف الصاد.
          ({خَيْرٌ لَكُمْ}) أي: أفضلُ من الإنظار، وقيل: خيرٌ مما تأخذون؛ لمضاعفةِ ثوابِه ودوامِه فتأمَّل.
          وقيل: المرادُ بالتصدُّقِ الإنظارُ؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لا يحِلُّ دينُ رجلٍ مسلمٍ فيؤخِّرُه إلا كان له بكلِّ يومٍ صدقةٌ)) بل في روايةِ أحمدَ عن بُريدةَ: ((مَن أنظَرَ مُعسِراً، فله بكلِّ يومٍ مثلِه صدقةٌ قبل أن يحِلَّ الدَّينُ، فإذا حلَّ الدَّينُ فأنظَرَه، فله بكلِّ يومٍ مثلاه صدقةٌ)) وتقدَّمَ في إنظارِ المعسِرِ أحاديثُ كثيرةٌ في باب: مَن أنظرَ مُعسِراً.
          ({إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}) أي: ما في ذلك من الثوابِ الجزيلِ والذِّكرِ الجميل ({وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}) أي: عذابِه، أو نفسِه؛ لأنَه مَخوفٌ؛ وهو: يومُ القيامةِ، أو يومُ الموتِ، فتأهَّبوا بما ينفعُكم فيه، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوبُ: ▬تَرجِعون↨ بفتح التاء وكسر الجيم، وزاد في ((الكشاف)): وقرئ: ▬يُرجَعون↨ بالياء على طريقةِ الالتفاتِ، وقرأ ابنُ مسعودٍ: ▬تُردُّون↨ وقرأ أُبيٌّ: ▬تَصيرون↨.
          ({ثُمَّ تُوَفَّى}) أي: تُعطى ({كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}) أي: جزاءَها من خيرٍ أو شرٍّ ({وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}) أي: لا يَنقصُ ثوابُهم، ولا بعقَابهِم، والجملةُ حاليةٌ، قال القسطلانيُّ: ولفظُ روايةِ ابنِ عساكرَ بعد قولِه: (({وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا})): <إلى قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}> ولأبوَي ذرٍّ والوقتِ: <إلى: {مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}> انتهى.
          لكن نسب في ((الفتح)) الأولى لجميع الرِّوايات قال: ووقعَ عند الدَّاوديِّ: <إلى قولِهِ: {لَا تُظْلَمُونَ}>.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻، وفي بعض الأصُول زيادةُ <واوٍ> قبلَ ((قال)) (هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلعم) أي: آيةُ الرِّبا كلُّها، أو آخرُ آيةٍ منها؛ وهي: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ...} [البقرة:281]، الآيةَ.
          وهذا التعليقُ وصله المصنِّفُ في التفسيرِ عنه، واعترضَه الدَّاوديُّ فقال: هذا إما أن / يكونَ وهماً، وإما أن يكونَ اختلافاً عن ابنِ عبَّاسٍ؛ لأنَّ الذي أخرجه المصنِّفُ في التفسيرِ عنه فيه التنصيصُ على أنَّ آخرَ آيةٍ نزلت قولُه تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ...} الآيةَ. قال: فلعلَّ الناقلَ وهَمَ لقُربِها منها، وتعقَّبَه ابنُ التِّين بأنه الواهمُ؛ لأنَّ من جملةِ الآياتِ التي ذكرَها البخاريُّ في التَّرجمةِ: {وَاتَّقُوا يَوْماً...} الآيةَ، وهي آخرُ آيةٍ ذكرَها، فالإشارةُ إليها بقوله: هذه آخرُ آيةٍ نزلت، انتهى.
          وقال العينيُّ: وأُجيبَ بأنه ليس بوَهمٍ، بل هاتان الآيتان؛ أي: آيةُ الرِّبا وآيةُ: {وَاتَّقُوا يَوْماً...} الآيةَ، نزلَتا جملةً واحدةً، فصحَّ أن يُقالَ لكلٍّ منهما: آخرُ آيةٍ نزلت.
          وأقول: في البَيضاويِّ ما نصُه: وعن ابنِ عبَّاسٍ أنَّها آخرُ آيةٍ نزلَ بها جِبريلُ عليه السَّلامُ، وقال: ((ضَعْها في رأسِ المائتَين والثمانين من البقرةِ)) وعاش رسولُ الله صلعم بعدَها أحداً وعشرين يوماً، وقيل: أحداً وثمانين، وقيل: سبعةَ أيامٍ، وقيل: ثلاثَ ساعاتٍ، انتهى.
          وفي العينيِّ: روى الثوريُّ، عن الكلبيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ قال: آخرُ آية نزلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} كان بين نزولِها وبين موتِ النبيِّ أحدٌ وثلاثون يوماً، وقال ابنُ جُريجٍ: يقولون: إنَّ النبيَّ عاشَ بعدَها تسعَ ليالٍ، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: وفي البخاريِّ: آخرُ سورةٍ نزلت: براءةٌ، وآخرُ آيةٍ نزلت: خاتمةُ النِّساءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ...} [النساء:127] الآيةَ، وقال أُبيُّ بنُ كعبٍ: آخرُ آيةٍ نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة:128] وقيل: إنَّ قولَه: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] أنها نزلَتْ يومَ النحرِ بمِنى في حَجَّةِ الوداع، انتهى.
          واعلم أنَّ آيةَ الرِّبا نزلت في طائفةٍ من ثَقيفٍ، ففي البغَويِّ نقلاً عن مقاتلٍ: نزلَتْ في أربعةٍ من ثَقيفٍ: مسعودٍ، وعبدِ ياليلَ، وحبيبٍ، وربيعةَ، وهم بنو عمرِو بنِ عُميرِ بنِ مخزومٍ، وكانوا يُربُون، فلما ظهرَ النبيُّ على الطائفِ أسلمَ هؤلاءِ الإخوةُ، فطلبوا رِباهم من بني المغيرةِ، فقالت بنو المغيرةِ: واللهِ ما نعطي الرِّبا في الإسلام، وقد وضعَه اللهُ عن المؤمنين، فاختصَمُوا إلى عَتَّابِ بنِ أَسيدٍ، وكان عاملَ رسولِ الله على مكَّةَ، فكتبَ عتَّابٌ إلى رسولِ الله بقصَّةِ الفريقَين، وكان ذلك مالاً عظيماً، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا...} [البقرة:278] الآياتِ.
          وقال العينيُّ: وقد ذكرَ زيدُ بنُ أسلمَ وابنُ جُريجٍ ومقاتلُ بنُ حيَّان والسُّدي أنَّ هذا السياقَ نزلَ في بني عمرِو بنِ عُميرٍ من ثقيفٍ، وبني المغيرةَ من بني مخزومٍ، كان بينهم ربا في الجاهليَّةِ، فلما جاء الإسلامُ ودخلوا فيه طلبَ ثقيفٌ أن تأخُذَه منهم، فتشاجروا، وقال بنو المغيرة: لا يؤدَّى الرِّبا في الإسلام، فكتبَ في ذلك عتَّابُ بنُ أَسيدٍ نائبُ مكَّةَ إلى رسولِ الله صلعم، فنزلت هذه الآيةُ، فكتب بها رسولُ الله صلعم إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} قال ابنُ عبَّاسٍ: استيقِنوا بحربٍ {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
          وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ قال: يقالُ يومَ القيامةِ لآكلِ الرِّبا: خُذْ سلاحَك للحرب، ثم قرأ: {فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ: {فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فمَن كان مُقيماً على الرِّبا لا ينزِعُ عنه يحِقُّ على إمامِ المسلمين أن يستَتيبَه، فإنْ نزَعَ، وإلا ضربَ عُنقَه.
          وقال ابنُ أبي حاتِمٍ: / حدثَنا عليُّ بنُ الحسينِ: حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ: حدثنا عبدُ الأعلى: حدَّثَنا هشامُ بنُ حسَّانَ وابنُ سِيرينَ أنهما قالا: واللهِ إنَّ هؤلاءِ الصَّيارفةَ لَأكلةُ الرِّبا، وإنهم قد أذِنوا بحربٍ من الله ورسولِه، ولو كان على النَّاسِ إمامٌ عادلٌ لاستتابَهم فإنْ تابوا، وإلا وضَعَ فيهمُ السِّلاحَ، انتهى.