الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب آكل الربا وشاهده وكاتبه

          ░24▒ (بَابُ آكِلِ) بمد الهمزة وكسر الكاف؛ أي: بابُ بيانِ حُكمِ، وقدَّرَه في ((الفتح)) بباب: إثمِ أو ذمِّ آكلِ (الرِّبَا وَشَاهِدِهِ) بالإفراد، وللإسماعيليِّ: <وشاهدَيه> بالتثنية (وَكَاتِبِهِ) بالإفراد؛ أي: الذي يواطئ صاحبَ الرِّبا على كِتمانِ الرِّبا وإظهارِ الجائزِ، ومثلُه الشاهدُ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الكاتبَ غيرُ الشاهد، وأنهما وظيفتان، وصرَّحَ بذلك النبيُّ عليه السَّلامُ في غيرِ هذا، فلعَنَ آكِلَه وموكِّلَه وكاتِبَه وشاهِدَه، وعلى ذلك ترجم البخاريُّ، وعلى ذلك العملُ بتونُسَ وبعضِ بلادِ المغربِ.
          أما لو سمعَ الكاتبُ والشاهدان متعاقدَين على الرِّبا، فيتعيَّنُ عليهم أن يشهدوا بالقصةِ على ما هي عليه؛ ليقَعَ السَّعيُ في إبطالِه، وليُحفَظَ حقُّ الدافعِ فيما دفعَ؛ لأنه لا يسقُطُ حقُّه من رأسِ مالِه بالرِّبا، وكذا حقُّ المستدينِ في إسقاطِ الرِّبا عنه، وهكذا لو كفرَ أحدٌ بحضرةِ الشهودِ، أو ابتدَعَ الزوجُ بالطلاقِ الثلاثِ، أو في نحوِ الحَيضِ، فإنه يجبُ عليهم أن يشهدوا ويكتُبوا، وإنما المنهيُّ عنه المواطأةُ، وإقرارُ أهلِ الفسادِ على فسادهم، كذا في ((المصابيح))، وكونُ الكاتبِ غيرَ الشاهدِ ظاهرٌ من حيثُ سهوُهما، وإلا فقد يكونُ الكاتبُ شاهداً، وعلى هذا لا يظهرُ تخصيصُ أهلِ تونُسَ وبعضِ بلادِ المغربِ بالذِّكر، ولعلَّ الكاتبَ عندهم لا يُشهِدونه.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على ((آكلِ))، وسقطتِ الواوُ لأبي ذرٍّ، ولابنِ عساكرَ: <قولِ الله> وعليهما فـ ((قولِ)) مصدرٌ، وهو مرادُ القسطلانيِّ بقوله: / فالفعلُ مرفوعٌ مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ يقدَّرُ بنحوِ: يدُلُّ، أو أمرٌ دالٌّ لذلك.
          ({الَّذِينَ يَأْكُلُونَ}) أي: يأخذون ({الرِّبَا}) وعبَّرَ بالأكل؛ لأنه أعظمُ المنافعِ، ولأنَّ الرِّبا شائعٌ في المطعومات، وقال الطَّبَريُّ: إنَّما خصَّ الأكلَ بالذِّكر؛ لأنَّ الذين نزلَتْ فيهم الآيةُ المذكورةُ كانت طعمتُهم من الرِّبا، وإلا فلا وعيدَ حاصلٌ لكلِّ مَن عملَ به، سواءٌ أكلَ منه أم لا، انتهى.
          وهو بالقصر، وحُكيَ مدُّه شذوذاً، ويكتَبُ بالواو والياء والألف، كما في ((شرح المهذَّبِ)) لكن كُتبَ في المصحَفِ العثمانيِّ بالواو فقط، على لغةِ مَن يفخِّمُ، كما كُتبتِ الصَّلاةُ والزكاةُ كذلك، وزيدت بعدها ألفٌ تشبيهاً بواو الجمع، قاله الزَّمخشَريُّ.
          ويقالُ فيه: الرِّما _بالميم_، والميمُ بدلاً عن الموحَّدة، وقال طاهرُ بنُ غَلْبونَ: قرأ أبو السَّمَّالِ: ▬الرَّبُوْ↨ بفتح الراء وضم الباء وواو ساكنة، وقرأه الحسَنُ بالمدِّ والهمز، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ بالإمالة، وقرأه الباقون بالتفخيم، والرُّيْبة _بالضم والتخفيف_ لغةٌ فيه، ويقالُ في تثنيتِه: رِبَوان _بالواو_، وقد يقال: رِبَيان _بالياء تخفيفاً_، كذا في ((المصباح)).
          ومعناه: لغةً: الزيادةُ، ومنه: رَبيَ المالُ يَربو: زادَ، قال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] أي: زادَتْ، وأمَّا شرعاً فهو: عقدٌ على عِوَضٍ مخصوصٍ مجهولِ التماثُلِ في معيارِ الشَّرعِ حالةَ العقدِ، أو مع تأخيرٍ في العِوَضَين، أو في أحدِهما، وهو ثلاثةُ أنواعٍ: ربا الفضل؛ وهو: البيعُ مع زيادةِ أحدِ العِوَضَين على مُقابِلِه، ورِبا اليد؛ وهو: البيعُ مع تأخيرٍ في قبضِ أحدِ العِوَضَين، أو أحدِهما، ورِبا النَّسيئةِ، ويقالُ له: رِبا النساءِ؛ وهو: البيعُ لأجلٍ، وجميعُ هذه الأنواعِ حرامٌ، ولا تنعقِدُ.
          قال الماورديُّ: أجمع المسلمون على تحريمِ الرِّبا، وعلى أنه من الكبائرِ، حتى قيل: إنه يحرمُ في جميعِ الشرائعِ، وفي كتابِ ((الرِّبا)) لمحمدِ بنِ أسلَمَ السَّمَرقنديِّ بسندِه عن أبي هريرةَ يرفَعُه: ((الرِّبا اثنان وسبعون حَوْباً، أدناها باباً: الناكِحُ أمَّه)) انتهى.
          وهو غايةٌ في التنفير عنه، ورواه السَّمرقنديُّ في ((بستانه)) عن عبدِ الله بنِ سلامٍ أنه قال: ((الرِّبا اثنان وسبعون في الإثم، أصغرُها حَوباً كمَنْ أتى أمَّه في الإسلام)) قال: ((ودرهمٌ من الرِّبا شرٌّ من بضعٍ وثلاثين زَنيةً)) قال: ((ويأذنُ الله تعالى بالقيامِ للبَرِّ والفاجرِ يومَ القيامةِ، إلا آكلَ الرِّبا؛ فإنه لا يقومُ إلا كما يقومُ الذي يتخبَّطُه الشيطانُ من المسِّ)) وروي فيه عن أبي هريرةَ إلى النبيِّ قال: ((ليلةَ أُسريَ بي سمعتُ في السماءِ السابعةِ فوق رأسي رعداً وصواعقَ وبَرْقاً، قال: ورأيتُ رجالاً بطونُهم بين أيديهم كالبيوتِ فيها حيَّاتٌ تُرى من ظاهرِ بطونِهم، فقلتُ: يا جبريلُ؛ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاءِ أكَلةُ الرِّبا)) انتهى.
          ({لاَ يَقُومُونَ}) أي: من قبورِهم ({إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ}) أي: لا يقومون إلا قِياماً كقيامِ المصروعِ ({مِنَ المَسِّ}) أي: الجنونِ، متعلِّقٌ بـ {يتخبطه} كما في ((البحر))، وقال في ((الكشاف)): متعلِّقٌ بـ {لاَ يَقُومُونَ} وضُعِّفَ بأنَّ ما بعد {إلا} لا يتعلَّقُ بما قبلَها إلا في الاستثناء، ولذلك منعوا تعلُّقَ: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً...} الآيةَ.
          روى الطَّبريُّ عن ابنِ عبَّاسٍ في تفسيرِ قولِه تعالى: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] قال: ذاك حين يُبعثُ من قبرِه، وفي كتاب أبي الفضلِ الجَوزيِّ عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((يأتي آكلُ الرِّبا يومَ القيامةِ مُخبَلاً يجرُّ شِقَّه)) ثم قرأ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وقيل: معناه _كما في ((الفتح))_: أنَّ النَّاسَ يخرجون / من الأجداثِ سِراعاً، لكنْ آكِلُ الربا يربُوا الرِّبا في بطنِه، فيريدُ الإسراعَ فيسقطُ، فيصيرُ بمنزلةِ المتخبِّطِ من الجنونِ لاختلالِ عقلِه.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: قال ابنُ جبيرٍ: يبعثُ أحدُهم حين يُبعثُ ومعه شيطان يخنُقُه، انتهى.
          ({ذَلِكَ}) أي: العقابُ المذكورُ، أو أعمُّ ({بِأَنَّهُمْ}) أي: بسببِ أنهم ({قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}) أي: لأنهم نظَموا الرِّبا والبيعَ في سِلكٍ واحدٍ؛ لاشتراكِهما في حصول الربحِ، فاستحَلُّوه استحلالَه، وقالوا: لمَ حُرِّمَ هذا وأُبيحَ؟ هذا اعتراضاً منهم، فردَّ اللهُ عليهم بقوله تعالى:
          ({وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}) فليسا بنظيرَين، فأنكر تسويتَهم بينهما، وأبطلَ قياسَهم لمعارضَتِه النصَّ، وأيضاً فالفرقُ بين الرِّبا والبيعِ ظاهرٌ، فإنَّ مَن أعطى درهمَينِ بدرهمٍ ضيَّعَ دِرهماً، ومَن اشترى سِلعةً تساوي دِرهماً بدرهمَين، فلعلَّ مسيسَ الحاجةِ إليها أو توقُّعَ رواجِها يجبُرُ الغُبنَ، ولأنه في البيع أخذَ عِوضاً من مالِه، وفي الرِّبا أخذه بلا مقابلٍ، والإمهالُ ليس مالاً حتى يُجعلَ عِوضاً، ذكرَه ابنُ الملقِّن.
          وقال الزَّمخشريُّ: فإن قلتَ: هلَّا قيل: إنَّما الرِّبا مثلُ البيع؛ لأنَّ الكلامَ في الرِّبا لا في البيعِ، فوجبَ أن يُقالَ: إنهم شبَّهوا الرِّبا بالبيعِ فاستحَلُّوه، وشبهتُهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجلُ ما لا يساوي إلا درهماً بدرهمَين جاز، فكذا إذا باعَ درهماً بدرهمَين.
          قلتُ: جيء به على طريق المبالغة، وهو أنه بلغَ من اعتقادِهم في حِلِّ الرِّبا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحِلِّ حتى شبَّهوا به البيعَ، انتهى.
          وقال ابنُ المنيِّر: لا يتعيَّنُ حملُه على المبالغة، إذ يمكنُ أن يقال: الرِّبا كالبيع؛ أي: والبيعُ حلالٌ، فالرِّبا مثلُه، ويمكنُ أن يُعكَسَ فيُقال: البيعُ كالرِّبا، فلو كان الرِّبا حراماً كان البيعُ حراماً، والأول: قياسُ الطَّردِ، والثاني: قياسُ العكس، انتهى، فتأمَّل.
          ({فَمَنْ جَاءَهُ}) {من} موصولةٌ أو شرطيةٌ؛ أي: فمَنْ أتاه ({مَوْعِظَةٌ}) أي: وعظ ({مِنْ رَبِّهِ}) أي: من الله تعالى، وزجرٌ بالنهيِ عن الرِّبا ({فَانْتَهَى}) معطوفٌ على {جَاءَهُ} أي: فاتَّعظَ واتَّبعَ النَّهيَ، وامتنعَ عما نُهيَ عنه حين بلَغَه النهيُ من الشارع، وجملةُ: ({فَلَهُ مَا سَلَفَ}) أي: مضى؛ أي: فلا يؤاخَذُ بما كان أكَلَه أو أخذَه جوابٌ أو خبرٌ من الرِّبا قبل النهيِ عنه، لا أنه يجوزُ له الآن أخذُ ما رابى به في الجاهلية.
          ({وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}) أي: يحكمُ يومَ القيامةِ في شأنِه مولاه لا غيرُه، فالجملةُ الحاليةُ مقيَّدةٌ للحصرِ، فلا تطالبوهُ بما أخذَه فيما مضى ({وَمَنْ عَادَ}) أي: رجعَ إلى الرِّبا وأكلَه ({فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}) كنايةٌ عن طولِ المدَّةِ، أو المرادُ: فجزاؤهُم ذلك، ولا يلزَمُ أن يُجازَوا؛ لعدمِ كفرِهم.
          وأما قولُ الزمخشريِّ: وهذا دليلٌ بيِّنٌ على تخليدِ الفسَّاق، انتهى. فهو مبنيٌّ على مذهبِه الفاسد، نعم؛ لو جُعلَ المعنى: {وَمَنْ عَادَ} أي: إلى تحليلِ الرِّبا وأكلِه، كانت الآيةُ على ظاهرِها، وعلى ذلك جرى البَيضاويُّ، قال: إذ الكلامُ فيه، فتأمَّل.
          تنبيه: قال ابنُ الملقِّن نقلاً عن ابنِ النَّقيب: والصحيحُ أنَّ الآيةَ من العموم الذي خُصَّ من المُجمَل، قال: ثم جمهورُ العلماءِ على أنَّ عقدَ الرِّبا منسوخٌ، وقال أبو حنيفةَ: هو فاسدٌ، إذا أُزيلَ عنه ما يُفسِدُه انقلب صحيحاً، انتهى، فتأمَّله.
          ولفظُ روايةِ أبوَي ذرٍّ والوقت: <قولُه تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} / إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}>.