الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قتل الخنزير

          ░102▒ (بابُ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ) أي: جَوازِ قتلِهِ، بل مشروعيَّتِه، بل وجوبِهِ؛ إذ لا يجوزُ اقتِناؤهُ بحالٍ عند الجميعِ، إلَّا ما شَذَّ به بعضُ الشافعيَّةِ من جَوازِ تَركِهِ إذا لم يكُنْ فيه ضَراوةٌ، نعم؛ ينبغِي أن يُستثنى _كما قال العَينيُّ_ ما إذا كان لأهلِ الذِّمَّةِ ولم نتضرَّرْ به، فلا يجوزُ لنا قَتلُه قبل نزولِ عيسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه مالٌ عندهم كالخمرِ.
          ووجهُ دخولِ هذا الباب في أبوابِ البيعِ _كما في ((الفتح))_: الإشارةُ إلى أنَّ ما أُمرَ بقَتلِهِ لا يجوزُ بيعُه، واعترضَه العينيُّ فقال: فيه نظَرٌ من وجهَينِ: أحدُهما أنه يَحتاجُ إلى بيانِ الموضِعِ الذي أمَرَ النَّبيُّ صلعم فيه بقتلِ الخِنزيرِ وتحريمِ بيعِهِ، لا يستلزِمُ جوازَ قتلِهِ، والآخرُ أنَّ قولَه: ما أُمرَ بقَتلِهِ لا يجوزُ بيعُه، ليس بكُلِّيٍّ، فإنَّ الشارعَ أمرَ بقتلِ الحيَّاتِ مع أنَّ جماعةً منهم أبو اللَّيثِ قالوا بجوازِ بيعِهَا إذا كان يُنتفَعُ بها للأدويةِ، انتهى.
          وأقول: قد يقالُ: وجهُ استِفادةِ الأمرِ بقَتلِه من كَونِ عيسى يقتُلُه حَتْماً، فكان نبيُّنا أمَرَ بقَتلِهِ إذ عيسى يحكُمُ بشريعةِ نبيِّنا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكونُ المأمورِ بقتلِهِ لا يجوزُ بَيعُه هو الأصلُ والغالبُ، فلا يرِدُ جَوازُ بيعِ الحيَّاتِ عند مَن ذكَرَ على أنَّه لمعنًى خارجيٍّ، فتأمَّلْ.
          على أنَّ العينيَّ أجابَ بنحوِ ما في ((الفتح))، فقال: ((كأنَّ البخاريَّ فهِمَ أنَّ كلَّ ما حَرُمَ ولم يَجُزْ بيعُه يجوزُ قَتلُه، والخِنزيرُ حَرَّمَ الشارعُ بيعَه كما في حديثِ جابرٍ الآتي، فجاز قَتلُه، فلذا أدخَلَ هذا البابَ في أبوابِ البيعِ))، انتهى، فتأمَّلْه.
          و((الخِنْزير)) بكسر الخاء المعجمة وسكون النون الزائدة على ما اختارَه في ((الصِّحاح))، وقال في ((المصباح)): ((الخِنْزيرُ: فِنْعيلٌ؛ حيَوانٌ خَبيثٌ، ويقالُ: إنه حَرُمَ على لسانِ كلِّ نبيٍّ، والجمعُ: خَنازيرُ))، انتهى.
          لكن قال في ((حياة الحيَوانِ)) للدُّمَيريِّ: ((هو عند أكثرِ اللُّغويِّين رُباعيٌّ، قال: وحكى ابن سِيدَه عن بعضِهم أنه مُشتَقٌّ من خَزَرِ العَينِ؛ لأنَّه ينظُرُ كذلك، فهو على هذا ثلاثيٌّ، يُقالُ: تخازَرَ الرَّجلُ: إذا ضيَّقَ جَفنَه ليُحِدَّ النَّظرَ، ثم قال: وكنيةُ الخِنزيرِ: أبو جَهْمٍ، وأبو زُرعةَ، وأبو دَلَقٍ، وأبو عُتبةَ، وأبو عليَّةَ، وأبو قادمٍ، ثم قال: ويحرُمُ أكلُه لقولِهِ تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والرِّجْسُ: النَّجَسُ، قال الماوَرديُّ: الضميرُ عائدٌ على الخنزيرِ لكَونِه أقربَ مذكورٍ، / ونازعَه أبو حَيَّانَ فقال: إنه عائدٌ على اللَّحمِ؛ لأن المضافَ إليه ذُكرَ بطَريقِ العَرْضِ لتعريفِ المضافِ، وسيأتي آخرُ البابِ لذلك تتمَّة.
          وقال شيخُنا الإسنَويُّ: ما ذكَرَه الماوَرديُّ أَولى؛ لأنَّ تحريمَ اللحمِ استُفيدَ من قوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فوجَبَ عَودُه إلى الخِنزيرِ ليُفيدَ تحريمَ سائرِ أجزائه، وقال القرطبيُّ في تفسيرِ سورةِ البقرةِ: لا خِلافَ أنَّ جملةَ الخنزيرِ مُحرَّمةٌ، إلا الشَّعرَ، فإنه تجوزُ الخِرازةُ به، ونقل ابنُ المنذِرِ الإجماعَ على نجاسَتِه، وفي دعواهُ الإجماعَ نظرٌ؛ لأنَّ مالكاً يخالفُ فيه، وقال النَّوَويُّ: ليس لنا دليلٌ على نجاسةِ الخنزيرِ، بل مُقتضى المذهبِ طهارتُه كالأسَدِ))، انتهى ملخَّصاً.
          وزاد ابنُ الملقِّن في ((شَرحِ المنهاجِ الفقهيِّ)) في بابِ النَّجاسةِ أربعةَ أوجُهٍ:
          أحدُها: قولُه تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فإنَّ المرادَ بلحمِ الخنزيرِ هو جملةُ الخِنزيرِ؛ لأنَّ لحمَه قد دخلَ في عُمومِ الميتةِ، فكان حَملُه على ما ذكَرناه من الفائدةِ أولى من حَملِه على التَّكرارِ، قاله الماورديُّ.
          الثاني: الإجماعُ كما نقَلَه ابنُ المنذرِ، لكن مذهَبُ مالكٍ: طهارَتُه ما دامَ حياً.
          الثالثُ: القياسُ، وهو أنَّه أسوأ حالاً من الكلبِ، فإنَّه يجبُ قتلُه، ولا يجوزُ الانتفاعُ به في حالةٍ، بخِلافِ الكلبِ، فإنه يجوزُ اقتناؤه للزَّرعِ والماشيةِ والصَّيدِ، وكذا للحراسةِ، وتربيةُ الجَروِ لذلك دون اتِّخاذِه لِما سيقَعُ من ذلك في الأصحِّ، فصار أولى بالنَّجاسةِ منه، واستدلَّ البيهقيُّ لهذا القياسِ بالحديثِ الصَّحيحِ أنَّ عيسى عليه السَّلامُ ينزِلُ حكماً عَدْلاً، فيكسرُ الصَّليبَ، ويقتلُ الخنزيرَ، وأما المصنِّفُ في ((شرح المهذَّبِ)) فقال: ((ليس لنا دليلٌ واضِحٌ على نجاسةِ الخنزيرِ في حالِ حياتِهِ))، وقال في ((شرحِ الوسيطِ)): ((مقتضى الدَّليلِ: طهارَتُه كالأسدِ والذِّئبِ والفأرةِ ونحوِها، وقولُهم: أنه أسوأُ حالاً من الكلبِ، لا يسلمُ))، انتهى.
          وهذا في الخِنزيرِ البرِّيِّ، وأما الخِنزيرُ البحريُّ، فحُكمُه كما في ((الحياة)) أيضاً أنَّه حلالٌ عند الشافعيِّ، ((قال الرَّبيعُ: سُئلَ الشافعيُّ عن خِنزيرِ الماءِ، فقال: يؤكَلُ، ورُويَ أنه لمَّا دخَلَ العِراقَ قال فيه: حَرَّمَه أبو حنيفةَ، وأحَلَّه ابنُ أبي ليلى، وقال ابنُ وهبٍ: سألتُ اللَّيثَ بنَ سعدٍ عنه، فقال: إن سمَّاه النَّاسُ خنزيراً لم يؤكَلْ؛ لأنَّ اللهَ تعالى حرَّمَ الخنزيرَ، وامتنعَ مالكٌ أن يقولَ فيه شيئاً، واجتنَبَه مرَّةً ورَعاً، ورُويَ جوازُ أكلِهِ عن عمرَ وعثمانَ وابنِ عبَّاسٍ وأبي أيُّوبَ وأبي هريرةَ والحسنِ البصريِّ والأوزاعيِّ واللَّيثِ))، انتهى.
          وذلك مذهبُ الجمهورِ أيضاً؛ لأنَّه من سمَكِ البحرِ، فاعرِفْه.
          (وَقَالَ جَابِرٌ) أي: ابنُ عبدِ الله الأنصاريُّ (حَرَّمَ) بتشديد الراء (النَّبِيُّ صلعم بَيْعَ الْخِنْزِيرِ) وقد وصلَه المصنِّفُ في بابِ بيعِ الميتةِ والأصنامِ المذكورِ بعد تسعةِ أبوابٍ بلفظ: ((أنه سَمِعَ رسولَ الله صلعم عامَ الفتحِ يقولُ بمكَّةَ: إنَّ اللهَ ورسولَه حرَّمَ بيعَ الخمرِ والمَيتةِ والخِنزيرِ والأصنامِ)).
          قال العينيُّ: مُطابقتُه للتَّرجمةِ من حيثُ إنَّ مشروعيَّةَ قتلِ الخنزيرِ مبنيٌّ على كونِه محرَّماً أكلُه، انتهى.