الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في}

          ░1▒ (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): سقطَ لابنِ عسَاكر لفظ: <باب>، وزادَ واواً قبل: ((ما جاء)) فيكونُ معطوفاً على ما تقدَّم ({فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ}): أي: صلاة الجُمُعة بمعنى: أُدِّيت وفُرِغ منها، من قضَى دينَه: أدَّاه ({فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}): أي: لقضَاء حوائجِكُم ومصَالحِكم ({وَابْتَغُوا}): أي: اطلبوا.
          ({مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}): أي: من رزقهِ، ومنه البيعُ والتِّجارة، أخرجَ أبو داود عن قتادةَ: أنَّه تلا هذهِ الآيةَ فقال: التِّجارة رزقُ اللهِ لِمن طلبهَا بصدقهَا، وقال الحسنُ وسعيد بن جُبير ومكحولٌ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} هو طلبُ العلمِ، والآيةُ كما قال البيضاويُّ: إطلاقٌ لِما حظر عليهم، واحتجَّ به من جعلَ الأمرَ بعد الحظرِ للإباحةِ، وفي الحديث: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}: ليس أمراً / بطلب الدُّنيا، وإنَّما هو عيادةٌ وحضُور جنازةٍ، وزيارة أخٍ في الله)) انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن والعينيُّ: حمل الأمر جماعة أهل العلم على أنَّه إباحةٌ بعد حظرٍ، وقيل: هو أمرٌ على حقيقتهِ، وقال الدَّاودي: هو على الإباحةِ لِمن له كفافٌ أو لا يطيقُ التكسُّبَ، وفرضٌ على مَن لا شيءَ له ويطيقُ التكسُّب، وقيل: من يعطفُ عليه بسؤالٍ أو غيره ليس طلب الكفافِ عليه بفريضةٍ، وقيل: البيع والشِّراء أو العمل يوم السَّبت.
          ({وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}): أي: واذكروهُ في مجامِع أحوالكم، ولا تخصُّوا ذكره بالصَّلاة، وقال ابنُ الملقِّن والعينيُّ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي: على كلِّ حالٍ ({لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}) أي: بخير الدَّارَين، و((لعلَّ)) من الله واجبٌ، والفلاحُ: الفوزُ والبقاءُ.
          فائدة: روى ابنُ أبي حاتمٍ قال: كان عراك بن مالكٍ إذا صلَّى الجُمعة انصرفَ فوقفَ على باب المسجدِ فقال: اللَّهمَّ أجبتُ دعوتكَ وصلَّيْتُ فريضتَكَ وانتشرتُ كما أمرتَني، فارزُقني من فضلكَ وأنت خيرُ الرَّازقين، وعن بعضِ السَّلف: مَن باعَ واشترى بعد صلاةِ الجُمُعة باركَ الله له سبعين مرَّةً.
          ({وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}): قيل: تقديرهُ: إليها وإليه، فحُذفت إليه للقرينةِ، وقيل: أفردَ التِّجارة؛ لأنَّها المقصُودة إذ المرادُ من اللَّهو طبلُ قدومِ العِير، وقال الدَّمامينيُّ في ((شرح التَّسهيل)): يجوز أن يعودَ إلى الرُّؤية المدلولِ عليها بـ{رَأَوْا} وهي صادقةٌ برؤيةِ التِّجارة واللَّهو، ثمَّ قال: إنَّه رآه في ((شرح الكافية)) للرَّضي بعد سنتين، انتهى ملخَّصاً.
          وقال البيضاويُّ: رُوي أنَّه عليه السلام كان يخطبُ للجمعة، فمرَّت عيرٌ تحملُ الطَّعام، فخرجَ النَّاس إليهم إلَّا اثني عشرَ فنزلَتْ، وإفراد التِّجارة يردُّ الكنايةَ؛ لأنَّها المقصُودة، فإنَّ المرادَ من اللَّهو الطَّبلُ الذي كانوا يستقبلونَ به العير، والتَّرديد للدَّلالة على أنَّ منهم من انفضَّ لمجرَّد سماعِ الطَّبل ورؤيتهِ، أو للدَّلالة على أنَّ الانفضاضَ إلى التِّجارةِ مع الحاجةِ إليها والانتفاعِ بها إذا كان مذموماً كان الانفضاضُ إلى اللَّهو أولى بذلك، وقد استدلَّ بعضُهم كالمالكيَّة ببقاء الاثني عشرَ رجلاً أنَّ الجمعة تنعقدُ بهذا العددِ.
          وقال البغويُّ: لا دليلَ فيه، وعند الحنفيَّة: أقلُّ ما تُقام به الجمعة ثلاثةٌ، وفي روايةٍ عن الحسن وأبي مالكٍ: أصابَ أهلَ المدينة جوعٌ وغلاءُ سعرٍ، فقدمَ دحيةُ بنُ خليفةَ بتجارةِ زيتٍ من الشَّام، وكان ذلك قبلَ أن يُسلمَ، والنَّبيُّ يخطبُ يوم الجمعةِ، فلمَّا رأوه قامُوا إليه بالبقيعِ خشوا أن يُسبقوا إليه، فلم يبقَ معَ النَّبي إلَّا رهطٌ منهم أبو بكرٍ وعُمر، فنزلتْ هذه الآية، فقال رسولُ الله: ((والذي نفسُ محمَّدٍ بيده، لو تتابعتُم حتَّى لا يبقَى منكم أحدٌ لسالَ بكم الوادِي ناراً))، ذكره البغويُّ.
          ({وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}): أي: في الخطبةِ، وكان ذلك في أوائلِ وجوب الجُمعة حين كانت الصَّلاة قبل الخطبةِ مثل العيد، كما رواهُ أبو داود في ((مراسيله)).
          ({قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ}): أي: من الثَّواب ({خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:10-11]): أي: لمن توكَّل عليه، فلا تتركوا ذكرَ الله في وقتٍ، وفي هذه الآية مشروعيَّة البيع من طريقِ عموم ابتغاء الفضل؛ لشمولهِ التِّجارة وأنواع التكسُّب، ولفظ رواية أبوي ذرٍّ والوقتِ وابن عسَاكرَ: <{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}...إلى آخر السورة> وفي أخرى لهم: ذكر الآية إلى قوله: <{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]> ثمَّ قال: / <إلى آخر السُّورة> وهي مدنيَّةٌ بإجماعٍ، وهي سبعمائة وعشرون حرفاً ومائةٌ وثمانون كلمة وإحدى عشرة آيةً، واسمها الجمعة.
          (وَقَوْلِهِ تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}): أي: بما لم يُبحه الشَّرع كالغصبِ والسَّرقة والقمَار والرِّبا، وقال في ((الفتح)): {أَمْوَالَكُمْ} أي: مال كلِّ إنسانٍ لا يصرفه في محرَّم، أو المعنى: لا يأخذ بعضُكُم مال بعضٍ، والظَّرف حال من {أَمْوَالَكُم}، و{بِالْبَاطِلِ} متعلِّق بـ{تَأْكُلُوا} أو حالٌ من مصدر {تَأْكُلُوا} أو صفةٌ له على حدِّ {فكُلَا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة:35].
          ({إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]): الاستثناء منقطعٌ؛ أي: لكن كون تجارةٍ عن تراضٍ غير منهيٍّ عنه، أو اقصدوا كون تجارة، و{عَنْ تَرَاضٍ} صفة لـ{تِجَارَةً}؛ أي: تجارةً صادرةً عن تراضِ المتعاقدين، روى أبو داود عن أبي سعيدٍ من حديثٍ طويلٍ رفعه: ((إنَّما البيعُ عن تراضٍ))، وروى الطَّبري من مرسلِ أبي قلابة بسندٍ رجاله ثقاتٌ: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((لا يتفرَّق بيِّعان إلَّا عن رضاً))، ومن طريقِ أبي زُرعة بن عَمرٍو: أنَّه كان إذا بايعَ رجلاً يقول له: خيِّرني، ثم يقول: قال أبو هُريرة: قال رسولُ الله صلعم: ((لا يفترقُ اثنان _أي: في البيع_ إلَّا عن رضاً))، وأخرجه أبو داود، قاله في ((الفتح)).
          وتخصيصُ التِّجارة من الوجوهِ التي بها يحلُّ تناول مالِ الغيرِ؛ لأنَّه أغلبُ وأوفقُ لذي المروءاتِ، وقرأَ الكوفيُّون: {تِجَارَةً} بالنَّصب على أنَّ كانت ناقصةٌ وإضمارُ الاسم؛ أي: إلَّا أن تكون التِّجارة أو الجهة تجارةً، وقال ابنُ الملقِّن وتبعه العينيُّ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}؛ أي: فليسَتْ من الباطلِ؛ لأنَّه بحقٍّ، وكذا ما كان من هبةٍ أو صَدقةٍ ونحوها، وهذا استثناءٌ منقطعٌ بالإجماعِ؛ أي: لكن لكم أكلها عن تراضٍ منكم، وخصَّ الأكلَ بالنَّهي تنبيهاً على غيره؛ لكونهِ معظم المقصُود من المالِ، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء:10]، وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقامَ الإجماع على أنَّ التصرُّف في المالِ الحرام باطلٌ حرام، سواء كان أكلاً أو بيعاً أو هبةً أو غير ذلك.
          ثمَّ قال: معنى {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}؛ أي: برضا كلِّ واحدٍ منكم بما في يده، قال أكثر المفسِّرين: هو أن يخيِّر كلُّ واحدٍ من البائعين صاحبه بعد عقدِ البيعِ، ثمَّ قال: والآيات التي ذكرها البخاريُّ ظاهرةٌ في إباحةِ التِّجارة إلا قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً}؛ لأنَّها أدخل في النَّهي عنها من الإباحةِ، إلى أن قال: وفي ((صحيح الحاكم)) من حديث عَمرو بن تغلبٍ مرفوعاً: ((أنَّ من أشراطِ السَّاعة أن تظهرَ الفتنُ وتفشو التِّجارة))، قال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ الشَّيخين، وفيه على شرطِهِمَا من حديثِ ابن مسعودٍ مرفوعاً: ((إيَّاكم وهيشَاتِ الأسواقِ)).
          قال: وكأنَّ النَّهي محمولٌ على أنْ يجعلها دَيدنه، فيشتغلُ بها عن المهمَّات، وبالجملةِ فقد أباحَ الله التِّجارة في كتابهِ وأمرَ بالابتغاءِ من فضلهِ، وكان أفاضلُ الصَّحابة يتَّجرون ويحترفونَ في طلبِ المعاشِ، وقد نهى العُلماء والحكماء عن أن يكونَ الرَّجل لا حِرفة له ولا صناعةَ؛ خشيةَ أن يحتاجَ إلى النَّاس فيذلَّ لهم، وقد رُوي عن لقمانَ أنَّه قال لابنه: يا بنيَّ، خُذ من الدُّنيا بلاغكَ، وأنفقْ من كسبكَ لآخرتِكَ، ولا ترفض الدُّنيا كلَّ الرَّفض فتكون عيالاً وعلى أعناق الرِّجال كلالاً.
          ورُوي عن حمَّاد بن زيدٍ أنَّه قال: كنت عند الأوزاعيِّ فحدَّثه شيخٌ كان عنده أنَّ عيسى عليه السَّلام قال: ((إنَّ الله يحبُّ العبد يتعلَّم المهنة / يستغني بها عن النَّاس، وإنَّ اللهَ تعالى يُبغض العبدَ يتعلَّم العلمَ يتَّخذه مهنةً))، وقال أبو قلابة لأيُّوب السِّختيانيِّ: يا أيُّوب، الزم السوقَ، فإنَّ الغِنى من العافيةِ، انتهى ملخَّصاً.
          وقد اعترضَه في ((الفتح)) فقال: وأغربَ بعض الشُّرَّاح فقال: إنَّ الآيات المذكورة ظاهرةٌ في إباحة التِّجارة... إلخ، ثمَّ قال: والذي يظهر أنَّ مراد البخاري بهذه التَّرجمة قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}...إلخ، وأمَّا التجارةُ فقد أفردَها بترجمةٍ تأتي بعد ثمانية أبوابٍ، انتهى.