الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}

          ░26▒ (بَابٌ) أي: يُذكَرُ فيه قولُه تعالى: ({يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}) أي: يُذهِبُ بركتَه، أو يُذهِبُه بالكليَّةِ، كما مرَّ في معنى {يَمْحَقُ} وضبطِه في باب: ما يمحَقُ الكذبُ والكِتمانُ في البيعِ، روى ابنُ أبي حاتمٍ عن الحسَنِ _كما في ((الفتح))_ أنه قال: ذاك يومَ القيامةِ، يمحَقُ اللهُ الرِّبا يومئذٍ، وقال غيرُه: إنَّ أمرَه يؤولُ إلى قلَّةٍ.
          أخرج ابنُ أبي حاتمٍ عن مقاتلِ بنِ حيَّانَ أنه قال: ما كان من رِبا وإن زادَ حتى يُغبطَ صاحبُه، فإنَّ اللهَ يمحَقُه، وأصلُه ما رواه ابنُ ماجه وأحمدُ بإسنادٍ حسنٍ عن ابنِ مسعودٍ مرفوعاً: ((إنَّ الرِّبا وإن كثُرَ عاقبتُه إلى قُلٍّ)).
          وقال ابنُ الملقِّن نقلاً عن المهلَّب: سُئل بعضُ العلماءِ عن معنى الآية، وقيل له: نحن نرى صاحبَ الرِّبا يربو مالُه، وصاحبَ الصدقةِ ربَّما كان مُقِلًّا، فقال: معنى: ({يُرْبِي الصَّدَقَاتِ}) أي: / يجدُها صاحبُها مثلَ أُحدٍ يومَ القيامة، فكذلك صاحبُ الرِّبا يجدُ عملَه يومئذٍ ممحوقاً إن تصدَّقَ منه أو وصَلَ رحِمَه، فلا يكتبُ له حسَنةٌ، بل يُكتبُ عليه إثمُ الرِّبا بحالِه، قال: وقالت طائفةٌ: إنَّ الرِّبا يُمحَقُ في الدُّنيا والآخرةِ لعمومِ اللفظ.
          قال: وذكر عبدُ الرزاق عن معمَرٍ قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحبِ الرِّبا أربعون سنةً حتى يُمحَقَ، قال: وروى الطَّبريُّ في ((تفسيره)) عن ابنِ مسعودٍ مرفوعاً: ((الرِّبا وإن كثُرَ فإلى قُلٍّ)) وقيل: إنْ تصدَّقَ منه فلا يُقبلُ، فإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّباً، وإن صَرفَ في سبيلِ الخيرِ لم ينفَعْه، وربَّما محَقَه في الدُّنيا وتبقى تبِعاتُه، وقيل: يهلِكُ وتذهبُ بركتُه، انتهى، فتأمَّل.
          ومثلُه ما ذكره البغويُّ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ معنى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أنه لا يقبلُ منه صدقةً ولا جِهاداً ولا حَجًّا ولا صلاةً، انتهى.
          ({وَيُرْبِي}) بضم أوله وسكون الراء؛ أي: ويضاعِفُ ({الصَّدَقَاتِ}) أي: ثوابَها، ويباركُ فيما أُخرجَتْ منه، ففي الحديث: ((ما نقصَتْ زكاةٌ من مالٍ قطُّ)) وفيه: ((ما نقَصَ مالٌ من صدقةٍ)) وقُرئ: ▬يُرَبِّي↨ بفتح الراء وتشديد الموحدة، من التربية، كما في الحديث الصَّحيح: ((مَن تصدَّقَ بعِدلِ تمرةٍ...)) الحديثَ. وفيه: ((ثم يربيِّها لصاحبِها كما يربِّي أحدُكم فُلُوَّه، حتى يكونَ مثلَ الجبل)).
          ({وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ}) كثيرِ الكفرِ بإصرارِه على تحليلِ المحرَّماتِ كالرِّبا ({أَثِيمٍ}) أي: كثيرِ الإثمِ؛ لكثرةِ ارتكابِه المحرَّماتِ واستحلالِه لها كالرِّبا، ووقع في بعض النُّسخ: <{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ...} الآيةَ>.