الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التجارة في البر

          ░8▒ (بَابُ التِّجَارَةِ) بكسر الفوقية؛ أي: المتاجَرة؛ وهي: تقليبُ المالِ لغرضِ الرِّبحِ (فِي البَرِّ) بفتح الموحدة وتشديد الراء، ولأبوَي ذرٍّ والوقت: <في البزِّ> بالزاي بدلَ الراء، وهي روايةُ الأكثر كما في ((الفتح))، وليس في الحديثِ ما يدلُّ عليه بخصوصِهِ، بل بطريقِ عمومِ المكاسبِ المباحة، وصوَّبَ ابنُ عساكرَ أنه بالراء، وهو أليقُ بالتَّرجمة التي بعد هذه بباب؛ وهي: التِّجارةُ في البحرِ، وكذا ضبطَه الدِّمياطيُّ، وأما قولُ البرماويِّ تَبعاً لبعضِهم أنه تصحيفٌ، فقال في ((الفتح)): إنه خطأ؛ إذ ليس في الآيةِ ولا الحديثِ ولا الأثرِ التي أوردَها في البابِ ما يرجِّحُ أحدَ اللفظَين.
          ولابن عساكرَ: <البُرِّ> بضم الموحدة وبالراء، ونسبها في ((الفتح)) لضبطِ ابنِ بطَّالٍ وغيرِه فيما قرأه بخطِّ القُطبِ الحلبيِّ، قال: وليس في الباب ما يقتضِي تعيينَه من بين أنواعِ التِّجارات، لكن قال ابنُ بطَّالٍ: إنَّ الآيةَ يدخلُ فيها البَزُّ وغيرُه من أنواعِ التجارة، انتهى.
          واعترضه في ((المصابيح)) فقال: لا نسلِّمُ شمولَ الآيةِ لكلِّ تجارةٍ؛ لأنَّ التجارةَ والبيعَ فيها من المطلَقِ لا من العامِّ، وإن كانتا نكرتَين في سياقِ النَّفي، قال: لأنَّ ترجمةَ المصنِّفِ مقتضيةٌ لإثباتِ التجارةِ والبيع، لا لنفيِهما، والمعنى: اسم تجارة وبيع لا يُلهيانِهم، فكلٌّ منهما نكِرةٌ في سياقِ الإثباتِ، انتهى، فتأمَّله.
          والبَزُّ: _بفتح الموحدة وتشديد الزاي_، اختُلفَ في معناه، فقال ابنُ دريد: البَزُّ: متاعُ البيتِ من الثِّيابِ خاصَّةً، وقيل: أمتعةُ التاجرِ من الثياب، ورجلٌ بزَّازٌ، والحِرفة: البِزازةُ، والبِزَّةُ _بالكسر مع الهاء_: الهَيئةُ، يقال: هو حسَنُ البِزَّة، ويقال في السِّلاح: بِزَّة _بالكسر مع الهاء_، وبَزٌّ _بالفتح مع حذفها_، قاله في ((المصباح)).
          ونقل العينيُّ أنَّ محمداً قال في ((السير الكبير)): البَزُّ عند أهل الكوفة: ثيابُ الكتَّانِ والقُطنِ، لا ثيابُ الخزِّ والصُّوف، انتهى.
          وقوله: (وَغَيْرِهِ) بالجرِّ ثبتَ لأبي الوقتِ على ما في القسطلاني، ولكَريمةَ والإسماعيليِّ على ما في ((الفتح)) وسقطَ للأكثر (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطفاً على ((التجارة)) وبالرَّفع مستأنَفٌ.
          ({رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}) هذه الآيةُ في سورةِ النور، واختُلفَ في المراد منها، فقيل: لا تجارةَ لهم ولا بيعَ، فلا يغفُلون عن الذِّكر، وقيل: لهم تجارةٌ، لكنها لا تشغَلُهم، وعلى هذا تنزَّلُ ترجمةُ البخاريِّ، فإنما أرادَ إباحةَ التجارةِ، وإثباتَها لا نفيَها، وعطفُ البيعِ على التِّجارةِ مع شمولِها له؛ إمَّا لأنَّه أدخلُ في الإلهاء؛ لأنَّ التاجرَ إذا اتجهَتْ له بيعةٌ رابحةٌ ألهَتْه ما لا يُلهيه شراءُ شيءٍ متوقَّعٍ فيه الرِّبح، وقيل: لأنَّ التجارةَ الشراءُ، إطلاقاً لاسمِ الجنسِ على النوع، وقيل: لأنَّ التجارةَ في السَّفر، والبيعَ في الحضَر، نقلَه الكرمانيُّ عن ((الكشاف)) و{رِجَالٌ} فاعلُ فعلٍ محذوفٍ على قراءةِ ابنِ عامرٍ وابنِ عبَّاسٍ: ▬يُسَبَّح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ↨ أي: يسبِّحُه رجالٌ، وأما قراءةُ الباقين: {يُسَبِّح} بالبناء للفاعل، فـ{رجال} فاعلُه، فافهم.
          قال في ((الفتح)): روى عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ المعنى: لا تُلهيهِم عن الصَّلاةِ المكتوبة، قال: وتمسَّكَ به قومٌ في مدحِ تركِ التِّجارةِ، وليس بواضحٍ، انتهى.
          وقال السُّديُّ: عن الصَّلاةِ في جماعةٍ، وعن مقاتلِ بنِ حيَّانَ: لا يُلهيهم ذلك عن حضورُ الصَّلاة، وأن يُقيموها كما أمرهُم الله، وأن يحافظُوا على مَواقيتِها وما استحفظَهُم الله تعالى فيها، وقال ابنُ بطَّالٍ: ورأيتُ في تفسيرِ قولِه تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] قال: كانوا حدَّادين وخرَّازين، فكان أحدُهم / إذا رفعَ المِطرَقةَ، أو غرَزَ الإشْفى، فسمعَ الأذانَ، لم يُخرجِ الإشفى من الغَرْزةِ، ولم يرفَعِ المِطرقةَ، ورمَى بها، وقام إلى الصَّلاة، انتهى.
          وقوله: (وَقَالَ قَتَادَةُ) بفتح القاف؛ أي: ابنُ دِعامةَ _بكسرها_ (كَانَ القَوْمُ) أي: الصَّحابةُ (يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ) بتشديد الفوقية وبكسر الجيم (وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ) أي: عرضَ لهم (حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ) أي: ولا كلُّ ما يشغَلُ من زُخرُفِ الدُّنيا ومَلاذِّها (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) متعلِّقٌ بـ((تلههم)) (حَتَّى يُؤَدُّوهُ) أي: يفعلوهُ في وقتِه المطلوب فعلُه فيه منيبين (إِلَى اللَّهِ) أي: امتثالاً لأمرِ خالقِهِم ورازقِهم، فيقدِّمون مُرادَه تعالى ومحبَّتَه على مرادِهِم ومحبَّتِهم.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): لم أقِفْ عليه؛ أي: على أثرِ قَتادةَ موصولاً عنه، قال: وقد وقعَ لي من كلامِ ابنِ عمرَ، أخرجَه عبدُ الرزاق عنه: أنه كان في السُّوق، فأُقيمتِ الصَّلاةُ، فأغلَقُوا حوانيتَهم ودخلوا المسجدَ، فقال ابنُ عمرَ: فيهم نزلَتْ، فذكرَ الآيةَ، وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ عن ابنِ مسعودٍ نحوَه. قال: وفي ((الحِلية)) عن سُفيانَ الثوريِّ: كانوا يتبايعونَ ولا يدَعون الصَّلواتِ المكتوباتِ في الجماعة، انتهى.