الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة

          ░64▒ (باب النَّهْيِ) أي: نهي النَّبيِّ صلعم (لِلْبَائِعِ) وقوله: (أَنْ لا يُحَفِّلَ) أي: بأنْ لا يجمَعَ ولا يصُرَّ (الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ) فـ((أن)) مصدريَّةٌ، وتحتملُ التَّفسيريَّةَ، قاله الكِرمانيُّ وغيرُه، واستُشكلَ بأنَّ مِن شرطها أن يتقدَّم عليها جملةٌ، وقد يجابُ بأنَّه على هذا يُعربُ: ((النَّهي)) مبتدأً، و((للبائعِ)) متعلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ ((ولا يُحَفِّل)) بضم التحتية وتشديد الفاء، مضارعُ: حفَّلَ _بتشديدها_؛ أي: جمَّعَ، ومنه: المحفَّلُ لمجمَعِ الثاني فيهما، بيانٌ للنَّهي، وهو مرفوعٌ أو منصوبٌ، و((لا)) ثابتةٌ في مُعظمِ الرِّواياتِ، وهي نافيةٌ، وقيل: ((لا)) زائدةٌ، بل صدَّرَ به في ((الفتح)).
          وقال: وقد ذكره أبو نُعيمٍ بدونِ: ((لا))، وفي روايةِ النَّسفيِّ: <نهى البائعِ أن يُحفِّلَ الإبلَ والغنَمَ>، والبقَرُ في التَّرجمةِ للأكثرِ، وإن لم يُذكَرْ في الحديثِ إشارةً إلى أنَّها في معنى الإبلِ والغنَمِ في الحُكمِ خلافاً لداود الظَّاهريِّ، وإنما اقتصَر في الحديثِ عليهما لغلبَتِهما عند العربِ، والتَّقييدُ بالبائع يُخرِجُ ما لو حفَّلَ المالِكُ، فجمعَ اللَّبنَ لولَدهِ أو لعِيالِه أو لضَيفِه، فلا يحرُمُ إذا لم يضُرَّ بالدَّابَّةِ.
          (وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ) بنصبِ: ((كلَّ)) عطفاً على: ((الإبلَ))؛ أي: ولا يحفِّلَ كلَّ ما مِن شأنِها التَّحفيلُ، وهو من عطفِ العامِّ على الخاصِّ، قاله الكرمانيُّ وغيرُه، لكن نقلَ ابنُ بطَّالٍ عن أبي عُبيدٍ أنَّ المحفَّلةَ هي المصرَّاةُ بعَينِها، فتأمَّل.
          ورأيتُ في بعضِ الأصولِ ضبطَ: ((وكلَّ)) بالأوجُهِ الثلاثةِ، ولعلَّ الرَّفعَ عطفٌ على: ((باب)) أو مبتدأٌ، وخبَرُه محذوفٌ؛ أي: كذلك، وأمَّا الجرُّ؛ فهو عطفٌ على النَّهي، فافهم.
          وقد أشار المصنِّفُ بذلك إلى إلحاقِ / غيرِ النَّعَمِ من مأكولِ اللَّحمِ بالنَّعَمِ؛ للجامعِ بينهما؛ وهو: تغريرُ المشتري والإضرارُ به، نعم؛ غيرُ المأكولِ كالأتانِ والجاريةِ، وإن شارَكَه في النَّهي وثبوتُ الخِيارِ، لكنِ الأصح أنَّه لا يرُدُّ في اللَّبنِ منه صاعاً من تمرٍ؛ لعدَمِ ثبوتِهِ، ولأنه نجِسٌ، فلا عِوضَ له، ولأنَّ لبنَ الآدميَّاتِ وإن كان طاهراً لا يُعتاضُ عنه غالباً، وبذلك قال الحنابلةُ في الأتانِ دون الجاريةِ.
          وقال الحنفيةُ ومالكٌ في روايةٍ، وابنُ أبي ليلى في روايةٍ، وطائفةٌ من العراقيِّين، والراجحُ من مذهب مالكٍ أنَّه كالشافعيِّ كما قاله ابنُ بطَّالٍ: لا يردُّها بالتَّصريةِ، وإنما يرجعُ على البائعِ بنُقصانِهِ، وأجابوا عن حديثِ التصريةِ بوجوهٍ؛ منها أنَّه مُضطرِبٌ، فإنه قال مرَّةً: ((صاعاً من تمرٍ))، ومرَّة: ((صاعاً من طعامٍ))، ومرَّةً: ((مثلَ أو مثلَي لبَنِها)).
          قال في ((الفتح)): ((والجوابُ أنَّ الطُّرقَ الصحيحةَ لا اختِلافَ فيها، والضَّعيفُ لا يعملُ بالصَّحيحِ، ومنها من طعنَ فيه لكونِهِ من روايةِ أبي هريرةَ، ولم يكُنْ كابن مسعودٍ وغيرِه من فقهاء الصَّحابةِ، فلا يؤخذُ بما رواه مُخالفاً للقياسِ الجليِّ)).
          قال في ((الفتح)): ((وهو كلامٌ آذى قائلُه به نفسَه، وقد ترك أبو حنيفةَ القياسَ الجليَّ لروايةِ أبي هريرةَ وأمثالهِ، كما في الوضوءِ بنبيذِ التَّمرِ وغير ذلك، وأظنُّ أنَّ البخاريَّ لهذه النُّكتة أورد حديثَ ابنِ مسعودٍ عقبَ حديثِ أبي هريرة إشارةً إلى أنَّ ابن مسعودٍ أفتى بوفقِ حديثِ أبي هريرةَ، وقال ابنُ السمعانيِّ: التَّعرضُ إلى جانبِ الصَّحابة علامةٌ على خُذلانِ قائله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ))، انتهى.
          وأطالَ العينيُّ كصاحب ((الفتح)) الكلامَ في هذا الحديثِ، فليُراجع.
          تنبيه: المحفَّلةُ _بتشديد الفاء_: اسمُ مفعولٍ من: حفَّل تحفُّلاً، ومجرَّدُه من باب: ضربَ، ففي ((المصباح)): ((حَفَلَ القومُ في المجلِسِ حَفْلاً _من باب: ضرَبَ_: اجتَمَعوا واحتَفَلوا كذلك، واسمُ الموضعِ: محفِلٌ، والجمعُ: محافِلُ، وحفَلتُ بفُلانٍ: قُمتُ بأمره، ولا تحفَلْ به: أي: لا تُبالِه ولا تهتمَّ به، واحتفلتُ به: اهتممْتُ به، وحفَلَ اللَّبنُ وغيرُه حَفْلاً أيضاً، وحُفولاً: اجتمَعَ، وحفَّلتُ الشاةَ _بالتَّثقيل_: تركتُ حَلْبَها حتى اجتمعَ اللَّبنُ في ضَرعِها، فهي محفَّلةٌ، وكأنَّ الأصلَ: حفَّلتُ لبنَ الشَّاةِ؛ لأنَّه هو المجموعُ، فهي محفَّلٌ لبنُها، واحتفلَ الوادي: امتلأ وسالَ))، انتهى.
          (وَالْمُصَرَّاةُ) بضم الميم وفتح الصاد المهملة وتشديد الراء، مبتدأٌ، خبَرُه: (الَّتِي صُرِّيَ) بضم الصاد وتشديد الراء؛ أي: جُمعَ (لَبَنُهَا) أي: بربطِ ضَرعِها (وَحُقِنَ) بضم الحاء المهملة وكسر القاف خفيفة وتشديده، وفي بعضِ الأصُول: <وحُفلَ> بالفاء واللام (فِيهِ) أي: في الثَّدي، وعطفُه على: ((صُرِّي)) من عطفِ التَّفسيرِ، إذ التَّصريةُ والحقْنُ والحفْلُ بمعنًى (وَجُمِعَ) بتخفيف الميم ويجوزُ تشديدها؛ أي: اللَّبنُ (فَلَمْ يُحْلَبْ) بسكون الحاء (أَيَّاماً) وهذا معنى قولِ الشافعيِّ: ((والتَّصريةُ)): ربطُ أخلافِ النَّاقةِ أو الشَّاةِ، وتركُ حلبِها حتى يجتمعَ لبَنُها فيكثُرَ، فيظُنَّ المشتري أنَّ ذلك عادتُها، فيزيدَ في ثمنِها؛ لِما يرى من كثرةِ لبَنِها.
          (وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ: حَبْسُ الْمَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ) أي: من هذا الأصلِ (صَرَّيْتُ الْمَاءَ) بتشديد الراء، زاد أبو ذرٍّ: <إذا حبسْتَه> وهذا التَّفسيرُ قول أبي عبيدٍ وأكثرِ أهل اللُّغةِ، يقالُ: صرَيتُ النَّاقةَ _بالتخفيف_، وصرَّيتُها _بالتشديد / وأصرَيتُها؛ إذا حفَّلتَها، وناقةٌ صَرْياءُ: محفَّلةٌ، وجَمعُها: صَرايا على غيرِ قِياسٍ، فالمُصرَّاةُ أصلُها: مَصريَّةٌ على الصَّحيحِ، فقُلبَتِ الياءُ ألفاً، قيل: وليسَ هو من الصَّرِّ، إذ لو كان منه كانت: مصرورةً، انتهى.
          وقال في ((التُّحفة)) لابنِ حجرٍ: وجوَّزَ الشافعيُّ أن تكون من الصَّرِّ؛ وهو: الرَّبطُ، واعترضَه أبو عُبيدةَ بأنَّه يلزمُه أن يقول: مُصرَّرةً، أو مصرورةً، لا مُصرَّاةً، قال: وليس في محلِّه؛ لأنهم قد يكرهونَ اجتماعَ مثلَينِ، فيقلبونَ أحدَهما ألفاً، كما في {دسَّاها}، إذ أصلُه: دسَسَها، انتهى.
          وصرَّحَ بذلك الكرمانيُّ وغيرُه من الشُّراحِ، فاعرِفْه.