الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أمر النبي اليهود

          ░107▒ (بابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلعم الْيَهُودَ) أي: الذين كانوا بالمدينة (بِبَيْعِ أَرَضِيهِمْ) بفتح الراء لأبي ذرٍّ، جمعُ: أرْضٍ _بسكونها_، وهو شاذٌّ مجرورٌ بالياءِ نيابةً عن الكسرة؛ لأنَّه ملحَقٌ بالجمع المذكَّرِ السالم، وفي بعض الأصُول: <أرضِهم> بسكون الراء مفرداً، مجرورٌ بالكسرة (ودِمَنِهم) بكسر الدال المهملة وفتح الميم، جمعُ: دِمْنةٍ _بكسر الدال وسكون الميم_؛ وهي: السِّرْقينُ المتلبِّدُ والبَعْرُ، قاله في ((القاموس)).
          وقال ابنُ الأثيرِ في ((النِّهاية)): في الحديثِ: ((إياكم وخَضْراءَ الدِّمَنِ)) قال: جَمعُ: دِمْنةٍ؛ وهي: ما تُدمِنُه الإبلُ والغنَمُ بأبوالِها وأبعارِها؛ أي: تلبِّدُه في مَرابِضِها، فربَّما نبتَ فيها النَّباتُ الحسَنُ النَّضيرُ، انتهى.
          وسقط: <ودِمَنِهم> من بعضِ الأصُول (حِينَ أَجْلاَهُمْ) بسكون الجيم؛ أي: زمَنَ أخرَجَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من المدينةِ بَني النَّضيرِ (فِيهِ الْمَقْبُرِيُّ) أي: في البابِ حديثُ سعيدٍ المقبريِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺) قال ابنُ الملقِّن: كذا في ((البخاريِّ)) هنا من غيرِ زيادةٍ، وربَّما سقطَ من بعضِ النُّسخِ.
          وأشار به المصنِّفُ إلى ما أخرجَه في الجهادِ في بابِ إخراجِ اليهودِ من جزيرةِ العربِ، ولفظُه: ((بينا نَحنُ في المسجِدِ إذ خرجَ علينا النَّبيُّ صلعم، فقال: انطلِقوا إلى اليهودِ، فخرَجْنا حتى جئنا بيتَ المِدراسِ، فقال: أسلِمُوا تسلَموا، واعلَمُوا أنَّ الأرضَ لله ورسولِهِ، وإني أريدُ أن أُجليَكم من هذه الأرضِ، فمَنْ وجَدَ منكم بمالِه شيئاً فليبِعْه، وإلَّا فاعلَموا أنَّ الأرضَ للهِ ورسولِهِ)).
          قال في ((الفتح)): وهذه القصَّةُ وقعَتْ لبَني النَّضيرِ كما سيأتي في مَوضعِه، وقال الزَّركشيُّ أيضاً: اليهودُ هم بنو النَّضيرِ، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: والظاهرُ أنَّهم بقايا من اليهودِ تخلَّفوا بالمدينةِ بعد إجلاءِ بَني قَينُقاعَ وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والفَراغِ من أمرِهم؛ لأنَّ هذا كان قبل إسلامِ أبي هريرةَ؛ لأنَّه إنَّما جاءَ بعد فتحِ خيبرَ كما هو مقرَّرٌ معروفٌ، وقد أقَرَّ رسولُ الله صلعم يهودَ خيبَرَ على أن يعمَلوا في الأرضِ، واستمرُّوا إلى أن أجلاهم عمرُ ☺، انتهى، فتأمَّلْ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ نقلاً عن ابنِ إسحاقَ: لم يُسلِمْ من بَني النَّضيرِ إلا رجُلان، أسلَمَا على أموالِهما، فأحرَزاها، انتهى.
          تنبيه: استُشكِلَ مُطابقةُ الحديثِ للتَّرجمةِ، ولذا قالَ ابنُ المنيِّر: والعجَبُ أنَّ ترجمةَ البُخاريِّ هنا على بَيعِ اليهودِ أرضَهم، ولم يذكُرْ فيه إلا حديثَ أبي هريرةَ، وليس فيه للأرضِ ذِكرٌ، إلا أن يكونَ أخَذَ ذلك بطَريقِ العُمومِ من قوله: ((فمَن وجَدَ بمالِه شيئاً فليبِعْه)) والمالُ أعَمُّ من الأرضِ، فتدخُلُ فيه الأرَضونَ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وكأنَّ المصنِّفَ أخَذَ بيعَ الأرضِ من عُمومِ بيعِ المالِ، وتقدَّم في أبوابِ الخِيارِ في قصةِ عثمانَ وابنِ عمرَ إطلاقُ المالِ على الأرضِ، قال: وغفَلَ الكِرمانيُّ عن الإشارةِ إلى هذا الحديثِ، فقال: إنَّما ذكرَ البخاريُّ هذا الحديثَ بهذه الصِّيغةِ مقتضَباً لكونِه لم يثبُتِ الحديثُ المذكورُ على شَرطِه، والصَّوابُ أنه اكتفى هنا بالإشارةِ إليه لاتِّحادِ مَخرَجِه عنده، ففَرَّ من تَكرارِ الحديثِ على صورتِه بغَيرِ فائدةٍ زائدةٍ، كما هو الغالبُ من عادتِه، انتهى.
          واعترضَه العَينيُّ فقال: التَّكرارُ حاصِلٌ على ما لا يَخفى، مع أنَّ ذِكرَ هذا لا دَخْلَ له في كتابِ البُيوعِ، ولهذا سقَطَ من بعضِ النُّسَخ، انتهى.
          وأقول: له دخْلٌ فيه بما تقدَّمَ من أَخذِه من عُمومِ بيعِ المالِ المذكورِ في الحديثِ المشارِ إليه بما هنا، والتَّكرارُ المُضِرُّ لو سُلِّمَ هنا ما كان لغيرِ فائدةٍ، فتدبَّرْ / .