الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء

          ░40▒ (باب التِّجَارَةِ) أي: بيانِ حُكمِها، أو ((التجارةِ)) بمعنى: المتاجَرةِ (فِيما يُكْرَهُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يحرُمُ (لُبْسُهُ) بضم اللام، قال في ((القاموس)): لبِسَ الثوبَ _كسمِعَ_ لُبساً _بالضم_، ومثلُ اللُّبسِ غيرُه، بل قد يذكَرُ ويرادُ به الاستعمالُ، كما مرَّ في حديثِ أنسٍ: ((فقُمتُ إلى حَصيرٍ لنا قد اسوَدَّ من طولِ ما لُبسَ)).
          وقوله: (لِلرِّجالِ والنِّساءِ) متعلِّقٌ بـ ((لُبسُ)) أو حالٌ منه، أو متعلِّقٌ بـ ((يُكرَهُ))، قال في ((الفتح)): أي: إذا كان مما ينتفَعُ به غيرَ مَن كُرهَ له لبسُه إماماً لا منفعةَ فيه شرعيةً، فلا يجوزُ بيعُه أصلاً على الراجح من أقوال العلماء، انتهى.
          والتَّرجمةُ مشتملةٌ على شيئَين: ما يُكرَه للرِّجال، وما يُكرَه للنساء، وقد يُكرَهُ لهما معاً، كالنُّمْرُقةِ التي فيها تصاويرُ محرَّمةٌ، قال ابنُ المنيِّر: في التَّرجمةِ إشعارٌ بحَملِ قولِه: ((إنما يلبَسُ هذه مَن لا خَلاقَ له)) على العموم، حتى يشترِكَ في ذلك الرِّجالُ والنساءُ، لكن الحقُّ أنَّ ذلك خاصٌّ بالرجال، وإنما يشتركُ فيه الرِّجالُ والنِّساءُ المنعَ من النُّمرُقة.
          وقال في ((الفتح)): وجهُ الدلالةِ من حديثِ عائشةَ الذي في قصَّةِ النُّمرُقةِ المصوَّرةِ أنه صلعم لم يفسَخِ البيعَ فيها، والثوبُ الذي فيه الصُّورةُ مطابقٌ للترجمةِ من جهةِ اشتِراكِ الرِّجالِ والنِّساءِ في المنعِ منها.
          قال: وأما حديثُ ابنِ عمرَ، فواضحٌ فيما ترجَمَ له من جوازِ بيعِ ما يُكرَهُ لبسُه للرجالِ، والتِّجارةُ وإن كانت أخصَّ من البيع، لكنها جزؤه المستلزِمةُ له، وأما ما يكرَهُ لبسُه للنِّساء، فبالقياسِ عليه، أو المرادُ بالكراهةِ في التَّرجمة ما هو أعمُّ من التحريمِ والتنزيهِ، فيدخلُ فيه الرِّجال والنِّساء، قال: فعُرفَ بهذا جوابُ ما اعترض به الإسماعيليُّ من أنَّ حديثَ ابنِ عمرَ لا يطابِقُ التَّرجمةَ من حيثُ ذِكرُه فيها النِّساءَ، وحاصِلُه أنَّ حديثَ ابنِ عمرَ يدلُّ على بعض التَّرجمة، وحديثَ عائشةَ يدلُّ على جميعِها، انتهى ملخَّصاً.
          وقال العينيّ: التَّرجمةُ لها جزآن: أحدُهما: قولُه: / ((للرجال)) والآخرُ قولُه: ((للنساء))، فحديثُ ابنِ عمرَ يدخلُ في الجزء الأول، وحديثُ عائشةَ يدخل في الجزء الثاني إن كان اللُّبسُ على معناه الأصليُّ، وإن كان بمعنى الاستعمال كما ذكرنا لَيدخُلُ في الجزأَين معاً، فافهم، فإنه موضِعٌ تعسَّفَ فيه الشُّراحُ، وهذا الذي ذكرتُه فُتحَ لي من الأنوارِ الإلهية والفيوضِ الربَّانيَّة، انتهى، فتأمَّله.
          وقال ابنُ حجرٍ في ((الانتقاض)): لم يزِدِ العينيُّ على ما قرَّرَه الحافظُ شيئاً، بل أغارَ عليه، وغيَّرَ بعضَ العبارة، ثمَّ زعمَ أنه فُتحَ عليه، فهو نظيرُ مَن أصبحَ مُفلساً، فوجدَ ديناراً لغيرِه، فاستلبَه بغيرِ رضاه، ووسَّعَ به على عيالِه، وقال لهم: فُتحَ عليَّ اليومَ، انتهى.