الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما قيل في الصواغ

          ░28▒ (بَابُ مَا قِيلَ) أي: ورد (فِي الصَّوَّاغِ) بفتح الصاد المهملة وبضمها مع تشديد الواو فيهما وبالغين المعجمة بعد الألف مفرَداً وجمعاً، يقال في المفرَد: صائغٌ، وصَوَّاغٌ وصَيَّاغٌ _بالمثناة التحتية_، وعمَلُه: الصِّياغةُ كما في ((الفتح))، وإن اقتصرَ القسطلانيُّ على الإفراد، قال ابنُ المنيِّر: فائدةُ التَّرجمةِ لهذه الصِّناعةِ وما بعدها التَّنبيهُ على أنَّ ذلك كان في زمنِه عليه الصَّلاة والسَّلام، وأقرَّه مع العلم به، فيكونُ كالنصِّ على جوازِه، ويؤخَذُ ما عداه بالقياس.
          وقد وردَ في ذمِّ الصُّوَّاغِ أحاديثُ منها: ما رواه أحمدُ وابنُ ماجه، والبيهقيُّ عن أبي هريرةَ بلفظ: ((أكذبُ النَّاسِ الصَّباغون والصَّوَّاغون)) لكنه حديثٌ مضطربُ الإسنادِ، كما في ((الفتح)).
          وفي ((النهاية)) لابنِ الأثير: الصَّوَّاغ: صائغُ الحُليِّ، يقال: صاغَ يصوغُ، فهو صائغٌ وصَوَّاغٌ، ومنه الحديث: ((أكذبُ النَّاسِ الصوَّاغون)) قيل: لمَطلِهم ومواعيدِهم / الكاذبةِ، وقيل: أراد الذين يزيِّنون الحديثَ ويصوغونَ الكذبَ، يقال: صاغَ شِعراً، وصاغَ كلاماً؛ أي: وضعَه وزيَّنَه، ويُروى: ((الصيَّاغون)) بالياء، وهي لغةُ الحجازِ كالدَّيَّار والقيَّامِ، وإن كانا من الواو، ومنه حديثُ أبي هريرةَ: وقيل له: خرجَ الدجَّالُ، فقال: كَذْبةٌ كذَبَها الصوَّاغون. ومنه حديثُ بَكرٍ المُزَني في الطعام: ((يَدخُلُ صَوْغاً ويخرُجُ سُرُحاً)) أي: الأطعمةُ المصوغةُ ألواناً، المهيَّأةُ بعضُها ألواناً، انتهى.
          و((سُرُحاً)) بضم السين المهملة والراء وبالحاء، السَّهلُ، قال في حرف السين المهملة، وفي حديث الفارعةِ: أنها رأَتْ إبليسَ ساجِداً تسيلُ دموعُه كسُرُحِ الجنين، ويُروى: كسَريحِ الجَنين، وهو بمعناه، قال: السُّرُحُ: السَّهلُ، يقال: ناقةٌ سُرحٌ، ونوقٌ سُرحٌ، ومِشيةٌ سُرحٌ؛ أي: سَهلةٌ، وإذا ولدَتْ سهلاً قيل: وَلدَت سُرحاً، والسُّرحُ والسَّريحُ أيضاً: إدرارُ البولِ بعد احتباسِهِ، ومنه حديثُ الحسَنِ: يا لها نعمةٌ _يعني: الشَّربةَ من الماء_؛ تُشرَبُ لذَّةً، وتخرجُ سُرحاً؛ أي: سهلاً سريعاً، انتهى.
          ومنها ما رواه الدَّيلميُّ في ((مسند الفردوس)) عن أنسٍ بلفظ: ((شِرارُ أمَّتي الصبَّاغون والصيَّاغون)). وقال ابنُ بطَّالٍ: فالصِّياغةُ: صِناعةٌ يجوزُ التكسُّبُ منها، والصائغُ إذا كان عَدْلاً لا تضُرُّ صِناعتُه؛ لأنَّ الرسولَ صلعم قد أقرَّه، انتهى.
          لكن قد وردَ في ذمِّ الصُّوَّاغِ أحاديثُ أخرُ.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ) هذا التعليقُ وما بعدَه وصلَه المصنِّفُ في كتاب الحجِّ، وقد بسطنا الكلامَ على الحديثِ هناك.
          (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻) أنه قال (قَالَ النَّبِيُّ) وفي بعضِ الأصول: <عن النبيِّ> (صلعم) أي: عن مكَّةَ وفي شأنِها (لاَ يُخْتَلَى) بالخاء المعجمة مبنيًّا للمفعول؛ أي: لا يُقطَعُ (خَلاَهَا) بفتح الخاء المعجمة وتخفيف اللام مقصوراً، الحشيشُ الرَّطْبُ، والمرادُ: حشيشُها وحشيشُ الحرمِ، قال في ((المصباح)): الخلا _بالقصر_: الرَّطْبُ من النبات، الواحدةُ: خَلاةٌ، مثلُ: حَصًى وحصاةٌ، وأما الحشيشُ؛ فهو: اليابسُ، واختلَيتُ الخلا: قطعتُه، وخلَيتُه خَلْياً _من باب: رمى_ مثلُه، والفاعلُ: مُختَلٍ وخالٍ، قال: وفي الحديث: ((لا يُختَلى خَلاها))؛ أي: لا يُجَزُّ، انتهى.
          (فَقَالَ) بالفاء، وفي أكثرِ الأصول: بالواو.
          (العَبَّاسُ) أي: عمُّ رسولِ الله (إِلَّا الإِذْخِرَ) هذا استثناءٌ تلقينيٌّ يشبهُ العطفَ التَّلقينيَّ، فتدبَّر.
          و((الإِذْخِر)) بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة فخاء كذلك مكسورة، حشيشٌ طيِّبُ الرائحةِ ينبُتُ بالحجازِ، وعلَّلَ استثناءَ الإذخِرَ بقوله:
          (فَإِنَّهُ) أي: الإذْخِرَ (لِقَيْنِهِمْ) بفتح القاف وسكون التحتية؛ أي: لصائغِهم، ويُطلَقُ على الحدَّادِ والصائغ (وَبُيُوتِهِمْ) أي: لجَعلِهم إياه في سُقوفِهم (فَقَالَ) أي: النبيُّ صلعم (إِلَّا الإِذْخِرَ) فاستثناه صلعم بقوله المذكور؛ إما لنزولِ الوحيِ فوراً باستثنائه، أو لاجتهادِهِ في ذلك، أو فقيل له وقتَ بيانِ تحريمِ مكَّةَ: إذا طُلبَ منك استثناءُ الإذخرِ فاستثنِه.
          ومطابقةُ الأثرِ للترجمةِ في قوله: ((لقَينِهم)) لإطلاقِه على الصائغ، كما مرَّ قريباً.