الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب النجش

          ░60▒ (باب النَّجشِ) أي: بيانِ حُكمِه، وهو _بفتح النون وسكون الجيم وفتحها وبالشين المعجمة، بل اقتصَرَ في ((المصباح)) على فتحِ الجيم_، وقال في ((المغرب)): ((النَّجَش)) بفتحتين، ويُروى: بسكون الجيم، يقال: / نَجَشَ ينجُشُ، من باب: نصَرَ يَنصُرُ.
          وقال في ((الفتح)): النَّجْشُ _بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة_، وهو في اللُّغة: تنفيرُ الصَّيدِ واستثارتُه من مكانِه ليُصادَ، يقال: نجَشتُ الصَّيدَ، أنجُشُه _بالضم_ نَجْشاً، وفي الشَّرعِ: الزِّيادةُ في ثمَنِ السِّلعةِ لمَن لا يريدُ شراءَها ليقَعَ غيرُه فيها، سميِّ بذلكَ لأنَّ النَّاجِشَ يثيرُ الرَّغبةَ في السِّلعةِ، قال: ويقَعُ ذلك بمواطئةِ البائعِ، فيشتركانِ في الإثمِ، ويقعُ بغيرِ علمِ البائعِ، فيختصُّ الإثمُ بالنَّاجشِ، وقد يختصُّ به البائعُ؛ كمن يخبِرُ أنه اشترى سلعتَه بأكثرَ ممَّا اشتراها به ليغُرَّ غيرَه.
          وقال ابنُ قُتيبةَ: النَّجشُ: الخَتْلُ والخديعةُ، ومنه قيل للصَّائدِ: ناجِشٌ؛ لأنه يختلُ الصَّيدَ ويختالُ له، انتهى، فتأمَّله.
          (وَمَنْ قَالَ) عطفٌ على: ((النَّجشِ)) (لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ) أي: يُحرِّمُ ذلك البيعَ الذي وقعَ بالنَّجشِ، ولو في مالِ اليتيمِ على الأوجَهِ، كما في ((التُّحفة)).
          قال في ((الفتح)): كأنَّه يشيرُ إلى ما أخرجَه عبدُ الرَّزاق عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنَّ عاملاً له باعَ سبياً، فقال له: لولا أنِّي كنتُ أزيدُ فأُنفِقُه لكان كاسِداً، فقال له عمرُ: هذا نجشٌ لا يحلُّ، فبعثَ مُنادياً يُنادي: إنَّ البيعَ مردودٌ، وهو قولُ أهلِ الظَّاهر، وروايةٌ عن مالكٍ، وهو المشهورُ عن الحنابلةِ إذا كان بمواطَأةِ البائعِ أو صنيعِه، والمشهورُ عن المالكيَّةِ في مثلِ ذلك: ثبوتُ الخيارِ، وهو وجهٌ للشَّافعيةِ، والأصحُّ عندهم: صحَّةُ البيعِ مع الإثمِ، وهو مذهبُ الحنفيَّةِ، لكن شرطُ عصيانِهِ أن يكونَ عالماً بالنَّهي، وكذا البيعُ على بيعِ أخيه، كما بحثَ ذلك الرَّافعيُّ، بل هو منصوصُ الشَّافعيِّ، كما حكاه البَيهقيُّ في ((المعرِفة)) عنه، ولفظُ الشَّافعيِّ: النَّجشُ أن يحضُرَ السِّلعةَ تباعُ، فيُعطيَ بها الشَّيء وهو لا يريدُ شراءَها؛ ليقتديَ به السُّوامُّ، فيُعطونَ بها أكثرَ مما كانوا يُعطون لو لم يَسمعُوا سَومَه، فمَن نجشَ فهو عاصٍ بالنَّجشِ إن كان عالماً بالنَّهي، والبيعُ جائزٌ لا تُفسدُه معصيةُ رجلٍ نجشَ عليه)).
          قال في ((الفتح)): وقيَّد ابنُ عبدِ البرِّ وابنُ العربيِّ وابنُ حزمٍ التَّحريمَ بأن تكونَ الزِّيادةُ فوقَ ثمنِ المثلِ، ووافَقَه ابنُ العربيِّ، بل قال: يؤجرُ على ذلك بنيَّتِه، قال: ووافَقَه على ذلك بعضُ المتأخِّرين من الشَّافعيَّة، قال: وفيه نظرٌ؛ إذ لم تتعيَّن النَّصيحةُ في ذلك؛ لجَوازِ أن يعلمَ البائعُ أنَّ قيمةَ سلعتِه أكثرُ، ويحتملُ ألَّا يتعيَّنَ للحديثِ الآتي: ((دعُوا النَّاسَ يرزُقُ الله بعضَهم من بعضٍ، فإذا استنصحَ أحدَكم أخاه فلينَصْحهُ))))، انتهى.
          وقال العبَّاديُّ نقلاً عن الرمليِّ: ((ينبَغي أن يُستَثنى ما يُسمَّى في العُرفِ: فتحُ البابِ من عارفٍ يرغَبُ في فَتحِه؛ لأنه لمصلحةِ بيعِ السِّلعةِ؛ لأنَّ بيعَها في العادةِ يحتاجُ فيه إلى ذلك))، فليتأمَّل، انتهى.
          (وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى) بالفاء مقصور، علقمةُ، وابنُه: أبو إبراهيمَ، هو: عبدُ الله بنُ علقمةَ بنِ خالدِ بنِ الحارثِ، وهو أخو زيدِ بنِ أبي أوفى، لهما ولأبيهما صُحبةٌ، وهو آخِرُ مَن ماتَ من الصَّحابة بالكوفة.
          (النَّاجِشُ آكِلُ الرِّبا) بكسر الكاف ومد الهمزة؛ أي: كآكلِهِ، ولغيرِ أبي ذرٍّ: <رِباً> بالتنكير (خَائِنٌ) اسمُ فاعلٍ من: الخيانةِ، وهو خبرٌ بعد خبرٍ لـ((النَّاجِشُ))، وأخرجه الطَّبرانيُّ من وجهٍ آخرَ عن ابنِ أبي أوفى مرفوعاً بلفظِ: / ((النَّاجشُ آكِلُ رباً ملعونٌ)) بدلَ: ((خائنٌ))، وهذا التعليقُ وصلَه المصنِّفُ في الشَّهاداتِ عن عبدِ الله بنِ أبي أَوفى قال: أقامَ رجلٌ سلعتَه، فحلَفَ باللهِ لقد أعطى بها ما لم يُعطِ، فنزلتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً...} الآيةَ [آل عمران:77]، قال ابنُ أبي أوفى: النَّاجشُ آكلُ رباً خائنٌ.
          قال في ((الفتح)): أطلَقَ ابنُ أبي أَوفى على مَن أخبَرَ بأكثرَ ممَّا اشترى به أنَّه ناجشٌ؛ لمُشاركتِه لمَنْ يزيدُ في السِّلعةِ وهو لا يريدُ أن يشتريَها في غُرورِ غيرِه، فاشتَرَكا في الحُكمِ لذلك.
          (وَهْوَ) أي: النَّجش (خِدَاعٌ) بكسر الخاء المعجمة؛ أي: مخادعةٌ (بَاطِلٌ) أي: غيرُ حقٍّ (لاَ يَحِلُّ) بفتح التحتية؛ أي: لا يجوزُ فعلُه، وقوله: ((وهو خِداعٌ...)) إلخ، من كلامِ البخاريِّ، قاله تفقُّهاً، ولعلَّه يرى أنَّ بيعَ النَّجشِ باطلٌ، فلذا أكثَرَ من الاستدلالِ له.
          وقوله: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم...) إلخ، ذكرَه المصنِّف دليلاً لِما قاله من أنَّ النَّجشَ خِداعٌ... إلخ (الْخَدِيعَةُ) أي: صاحبُها (فِي النَّارِ) ويحتملُ أنَّ فعيلاً بمعنى: فاعلٍ، والتاءُ للمبالغةِ؛ أي: الخادِعُ لغيرهِ في النارِ، وهذا التَّعليقُ وصَلَه ابنُ أبي عديٍّ في ((الكامل)) بسندٍ لا بأسَ به عن قيسِ بنِ سعدِ بنِ عبادةَ بلفظِ: لولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله صلعم يقولُ: ((المكرُ والخديعةُ في النَّار)) لكنتُ مِن أمكرِ النَّاس.
          وقال النَّبيُّ صلعم: (وَمَنْ عَمِلَ) بكسر الميم (عَمَلاً) بفتحها (لَيْسَ عَلَيْهِ) أي: العملِ (أَمْرُنَا) أي: دينُنا بأن لا يَراهُ جائزاً (فَهْوَ رَدٌّ) أي: مردودٌ عليه، فلا يُقبَلُ منه، وسيأتي هذا التَّعليقُ موصولاً من حديثِ عائشة في الصُّلحِ.
          ومطابقتُه للتَّرجمةِ من جهةِ أنَّه يشملُ النَّجشُ؛ لأنَّه عملٌ ليس عليه دينُنا.