الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة

          ░54▒ (باب مَا يُذْكَرُ) بالبناء للمفعول (فِي بَيْعِ الطَّعَامِ) ووقعَ في بعض النُّسخ: <من بيعِ الطَّعامِ> أي: من أنَّه إن كان قبلَ قبضِهِ فلا يصحُّ، وإن كان بعده فيصحُّ، ولكونِ مُطابقةِ الحديثِ للتَّرجمةِ مَنطوقاً ومَفهوماً، ولعلَّ ما قلناه أَولى من اقتصارِ الشُّرَّاحِ على ما قبلَ القبضِ؛ لِما سيأتي في البابِ الآتي، فتأمَّل.
          (وَالْحُكْرَةِ) أي: وما يُذكَرُ في الحُكْرةِ، فهو بالجرِّ عطفٌ على: ((بَيعِ))، وهي _بضم الحاء المهملة وسكون الكاف وبالراء والتاء_، قال في ((المصباح)): ((احتَكَرَ زيدٌ الطَّعامَ؛ إذا حبَسَه إرادةُ الغَلاءِ، والاسمُ: الحُكْرةُ، مثلُ: الفُرقةِ من الافتِراقِ، والحَكر _بفتحتين وبإسكان الثاني_ بمعناه، لغةٌ))، انتهى.
          وقال ابنُ الأثير في ((النِّهاية)): ((الحَكَرُ والحُكْرةُ: الاسمُ من الاحتكارِ؛ وهو: الحَبْسُ، ومنه الحديثُ: ((أنَّه نهى عن الحُكْرةِ))، ومنه حديثُ عثمانَ: ((أنَّه كان يشتَري العِيرَ حُكْرةً))؛ أي: جُملةً، وقيل: جُزافاً، وأصلُ الحكَرِ: الجمعُ والإمساكُ، قال: وفي حديثِ أبي هريرةَ ☺ عند أحمدَ في الكِلابِ: ((إذا ورَدْنَ الحَكَرَ الصَّغيرَ فلا تطعَمْه)) الحَكْرَ والحَكَرُ _بالتحريك_: الماءُ القليلُ المجتمِعُ، وكذلك القليلُ من الطَّعامِ واللَّبنِ، فهو فعلٌ بمعنى مفعولٍ؛ أي: مجموعٍ، ((ولا تطعَمْه)) أي: لا تشرَبْه))، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: ((وهي إمساكُ ما اشتَراه في وقتِ الغَلاءِ، لا في وقتِ الرُّخصِ؛ ليبيعَه بأكثَرَ مما اشتراهُ به عند اشتدادِ الحاجةِ، بخلافِ إمساكِ ما اشتَراه في وقتِ الرُّخصِ لا يحرمُ مُطلقاً، ولا إمساكُ غلَّةِ ضيعَتِه، ولا إمساكُ ما اشتَراه / في وقتِ الغلاءِ لنفسه أو لعيالِهِ أو ليبيعَه بمِثلِ ما اشتَراه أو أقلَّ، لكِنْ في كراهةِ إمساكِ ما فضَلَ عما يَكفيه وعيالَه سنةً وجهانِ؛ الظَّاهرُ منهما: لا منْعَ، لكن الأولى منعُه، كما في ((الرَّوضةِ))، ويختصُّ تحريمُ الاحتكارِ بالأقواتِ، ومنها التَّمرُ والزَّبيبُ والذُّرة والأرزُّ، فلا يعُمُّ جميعَ الأطعمةِ))، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّنِ _كابن بطَّالٍ_: ((قال أبو الزِّنادِ: قلتُ لابن المسيَّب: أنت مُحتكرٌ، قال: ليس هذا بالذي قالَ رسولُ الله صلعم، إنَّما قال: ((أن يأتيَ الرجلُ للسِّلعةِ عند غَلائها، فيُغاليَ فيها))، وأمَّا أن يشتريَه إذا اتَّضعَ، ثمَّ يرفَعَه، فإن احتاجَ النَّاسُ إليه أخرجَه، فذاك خيرٌ، فبانَ أنَّ معنى النَّهي عن الحُكْرةِ في وقت حاجةِ النَّاسِ.
          وروى ابنُ القاسمِ عن مالكٍ أنَّه قال: منِ اشتَرى الطَّعامَ في وقتٍ لا يضرُّ بالنَّاسِ اشتراؤه، فلا يضُرُّه أن يتربَّصَ به ما شاءَ، وهو قولُ الكوفيِّينَ والشافعيِّ. قال مالكٌ: وجميعُ الأشياءِ في ذلك كالطَّعامِ))، انتهى.
          وليس من الاحتكارِ _كما في ((شرح العباب))_ ما لو اشتراهُ في وقتِ الغَلاءِ طالباً لربحِهِ من غيرِ إمساكٍ، فلا يحرمُ كما صرَّحَ به الماورديُّ وغيرُه، وليس منه أيضاً _كما قال العبَّاديُّ_ ما لو اشتَراه في وقتِ الغلاءِ ليبيعَه ببلدٍ آخرَ سعرُها أغلى؛ لأنَّ سعرَ البلدِ الآخرِ متحقِّقٌ، والتَّأخيرَ من ضرورةِ النَّقلِ، وألحقَ الغزاليُّ بالقُوتِ كلَّ ما يعينُ عليه؛ كاللَّحمِ والفاكهةِ، واستوجهَ العبَّاديُّ في ((حواشي التُّحفةِ)) أنه لا يحرمُ احتكارُ الذُّرة ببلدٍ لا يقتاتونَها.
          تنبيهان:
          الأوَّلُ: قال الإسماعيليُّ: ((ليس في أحاديثِ البابِ للحُكْرةِ ذِكرٌ))، وأجاب في ((الفتح)) فقال: ((كأنَّ المصنِّفَ استنبطَ ذلك من الأمرِ بنقلِ الطَّعامِ إلى الرِّحالِ، ومنعِ بيعَ الطَّعامِ قبل استيفائهِ، فلو كان الاحتكارُ حراماً لم يأمُرْ بما يؤولُ إليه، وكأنَّه لم يثبُتْ عنده ما رواه مسلمٌ من حديثِ معمرِ بنِ عبدِ الله مرفوعاً: ((لا يحتكِرُ إلَّا خاطئٌ))))، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ فقال: ((هذا استنباطٌ عجيبٌ، فما وجهُه؟ وليس الأمرُ إلَّا ما قاله الإسماعيليُّ))، قال العينيُّ: اللَّهمَّ إلا إذا قلنا: إنَّ البخاريَّ لم يُردْ بقوله: ((والحُكْرةِ)) إلا معناها اللُّغويَّ؛ وهو: الحبسُ مطلقاً، فحينئذٍ يطلقُ على الذي يشتري مُجازَفةً ولم ينقُلْه إلى رحله أنَّه محتكِرٌ لغةً لا شرعاً، قال: فافهَمْ، فإنَّه دقيقٌ انتهى، فتأمَّله.
          وأقولُ: لعلَّ الأولى في الجوابِ أنَّ المصنِّفَ أشار بالتَّرجمةِ أنَّ الأحاديثَ المارَّةِ قريباً ليس على شَرطهِ، ويحتمِلُ أن يكونَ: ((والحُكْرةِ)) من عطفِ التَّفسيرِ، فتدبَّر.
          التَّنبيهُ الثَّاني: وردَ في ذمِّ الاحتكارِ أحاديثُ كما في ((الفتحِ)) وغيرِه، منها حديثُ معمرٍ المذكورُ آنفاً، ومنها حديثُ عمرَ مرفوعاً عند أحمدَ وابنِ ماجه بسندٍ حسنٍ بلفظِ: ((منِ احتكرَ على المسلمينَ طعامَهم ضربَه اللهُ بالجُذامِ والإفلاسِ))، ومنها ما رواه ابنُ ماجه أيضاً والحاكمُ بسندٍ ضعيفٍ عن عمرَ رفعهُ قال: ((الجالبُ مرزوقٌ، والمحتكرُ ملعونٌ))، ومنها ما أخرجَه أحمدُ والحاكمُ بسندٍ فيه مقالٌ عن ابنِ عمرَ مرفوعاً: ((منِ احتكرَ طعاماً أربعين ليلةً، فقد برِئَ من اللهِ، وبرئَ اللهُ منه))، ومنها ما رواه الحاكمُ بسندِه عن أبي هريرةَ رفعَه: ((منِ احتكَرَ حُكْرةً يريدُ أن يُغاليَ بها على المسلمينَ فهو خاطئٌ))، ومنها ما أخرجَه أحمدُ والحاكمُ عن أبي هريرةَ أيضاً بلفظِ: ((منِ احتكَرَ حُكْرةً يريدُ أن يُغليَ بها على المسلمين فهو خاطئٌ، وقد برئتْ منه ذمَّةُ الله ورسوله))، ومنها ما أخرجَه ابنُ عساكِرَ عن معاذٍ بلفظِ: ((منِ احتكرَ طعاماً على أمَّتي أربعينَ يوماً، وتصدَّقَ به، لم تقبلْ منه)).
          وأمَّا ما اشتهرَ من قولهم: خازنُ القُوتِ ممقوتٌ، فليس بحديثٍ، كما في ((التَّمييزِ)) لابن الرَّبيعِ، لكنْ معناه صحيحٌ، وقال السَّخاويُّ / في ((المقاصدِ)): قد يُستأنسُ له بقصَّةِ سُويبطٍ مع النُّعيمانِ.