الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات

          ░5▒ (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ) من الرأي (الوَسَاوِسَ) بفتح الواو، جمع: وَسْواسٍ (وَنَحْوَهَا) بضمير التأنيث، لرجوعِه إلى ((الوساوس)) وفي بعضِ الأصُول: <الوَسْواسِ> بالإفرادِ <ونحوِه> أي: الوَسواس.
          (مِنَ المُشَبَّهَاتِ) بضم الميم وفتح الشين المعجمة وتشديد الموحدة، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ: <من الشُّبُهات> بضم الشين والموحدة، ولابنِ عساكرَ: <المشْتَبِهات> بضم الميم وسكون الشين ففوقية مفتوحة، وبكسر الباء، والكلُّ بمعنى: المشكِلاتِ.
          والوَسوَسةُ: ما يُلقيه الشَّيطانُ في القلب، وكذلك الوَسْواسُ، ويُطلَقُ الوَسواسُ على الشَّيطانِ أيضاً، وأصلُه: الحركةُ الخفيفةُ، ويقال كلٌّ منهما على الحديثِ الخفيِّ، كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه:120]، وصوتُ الحُليِّ يُسمَّى: وَسواساً أيضاً، والموَسوِسُ: الذي يكثِرُ الحديثَ في نفسِه، ووسوسةُ الشيطانِ تصِلُ إلى القلبِ في خفاءٍ، ووسواسُ الإنسان: وسوستُه التي يحدِّثُ بها نفسَه.
          وفي ((القاموس)): الوَسوسةُ: حديثُ النفسِ والشَّيطانِ بما لا نفعَ فيه ولا خيرَ، كالوِسواس _بالكسر_، والاسمُ: بالفتح، ووسوَسَ له وإليه، انتهى.
          وقال في ((المصباح)): الوَسواس _بالفتح_: اسمٌ مِن: وسوَستُ إليه، ووسوَسَ متعدٍّ بـ: إلى، وقولُه تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20] اللامُ بمعنى: إلى، فإن بُني للمفعولِ قيل: موسوَسٌ إليه، مثلُ: {المَغْضُوبِ عَلَيْهِم} / والوَسْواسُ _بالفتح_: مرضٌ يحدُثُ من غلَبةِ السَّوداء يختلط معه الذِّهنُ، ويقالُ لِما يخطُرُ في القلبِ من شرٍّ، ولِما لا خيرَ فيه: وَسواسٌ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وهذه التَّرجمةُ معقودةٌ لبيان ما يُكرَهُ من التنطُّعِ في الورعِ، قال الغزاليُّ: الوَرعُ أقسامٌ: ورعُ الصدِّيقين؛ وهو: تركُ ما لا يُتناوَلُ بغير نيَّةِ القوَّةِ على العبادةِ، وورعُ المتَّقين؛ وهو: تركُ ما لا شُبهةَ فيه، ولكن يُخشى أن يجُرَّ إلى الحرام، وورعُ الصالحين؛ وهو: تركُ ما يتطرَّقُ إليه احتمالُ التَّحريمِ بشَرطِ أن يكونَ لذلك الاحتمال مَوقعٌ، فإنْ لم يكُنْ، فهو ورَعُ الموسوَسين، قال: ووراءَ ذلك ورعُ الشُّهودِ؛ وهو: تركُ ما يُسقِطُ الشهادةَ، أعمُّ من أن يكونَ ذلك المتروك حراماً أم لا، انتهى.
          قال: وغرضُ المصنِّفِ هنا بيانُ ورعِ الموسوَسين؛ كمَنْ يمتنِعُ من أكلِ الصَّيدِ خشيةَ أن يكونَ كان لإنسانٍ ثم أفلَتَ منه، وكمَنْ يترُكُ شراءَ ما يحتاجُ إليه من مجهولٍ لا يدري أمالُه حلالٌ أم حرامٌ، وليسَتْ هناك علامةٌ تدلُّ على الثاني، وكمَنْ يترُكُ تناولَ الشيءِ لخبرٍ وردَ فيه متَّفقٍ على ضَعفِهِ وعدمِ الاحتجاجِ به، ويكونُ دليلُ إباحتِهِ قوياً، وتأويلُه ممتنعٌ أو مستبعَدٌ.