الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من أنظر موسرًا

          ░17▒ (بَابُ مَنْ أَنْظَرَ) أي: بابُ بيانِ فضلِ مَن أنظَرَ؛ أي: أمهَلَ (مُوسِرًا) اسمُ فاعلٍ من الإيسار، وفي بعض الأصول: <معسراً> / من الإعسار، فـ ((مَن)) موصولةٌ أو موصوفةٌ، و((بابُ)) مضافٌ إليها، ومقتضى كلامِ شيخ الإسلام جعلُها شرطيَّةً، فـ ((بابٌ)) منوَّنٌ، حيثُ قال: ((بابٌ: مَن أنظر موسراً))؛ أي: تجاوزَ الله عنه، كما يؤخَذُ من الحديثِ الآتي.
          قال: فإذا تجاوزَ عنه في إنظارِه الموسِرَ، ففي إنظارِه المعسِرَ أَولى، انتهى.
          وعلى هذا؛ فالتَّرجمةُ الآتيةُ حقُّها أن تكونَ: ((بابٌ: مَن أنظرَ موسِراً)) وعلى الأولى بالعكس، وهو الموجودُ في أكثرِ الأصول، فاعرِفْه.
          واختلف العلماءُ _كما في ((الفتح)) وغيرِه_ في حدِّ الموسِرِ والمعسِر، فقيل: الموسِرُ: مَن عنده مؤنتُه ومؤنةُ مَن تلزمُه نفقتُه، وقال الثوريُّ وابنُ المباركُ وأحمدُ وإسحاقُ: مَن عنده خمسون درهماً أو قيمتُها من الذهبِ فهو موسِرٌ، وقال الشافعيُّ: قد يكون الشَّخصُ بالدرهمِ الواحدِ غنيًّا مع كسبِهِ، وقد يكونُ بالألفِ فقيراً مع ضعفِهِ في نفسِهِ وكثرةِ عيالِه، وقيل: الموسِرُ والمعسِرُ يرجعان إلى العُرفِ، فمَن كان حالُه بالنسبةِ إلى مثلِه يُعدُّ يَساراً فهو موسِرٌ، وعكسُه فقيرٌ، قال في ((الفتح)): وهذا هو المعتمَدُ، وما قبلَه إنَّما هو في حدِّ مَن تجوزُ له المسألةُ والأخذُ من الصَّدقة، انتهى.
          وزاد العينيُّ تَبعاً للكِرمانيِّ، فقال: وقيل: الموسِرُ مَن يملِكُ نصابَ الزكاة، وقيل: مَن لا تحِلُّ له الزكاة، وقيل: مَن يجِدُ فاضلاً عن ثوبِه ومسكَنِه وخادمِه ودَينِه وقوتِ مَن يموِّنُه، قال: وعند أصحابنا على ما ذكره صاحبُ ((المبسوط)) و((المحيط)) الغنى على ثلاثِ مراتبَ:
          الأولى: الغنى الذي يتعلَّقُ به وجوبُ الزكاة.
          الثانية: الغِنى الذي يتعلَّقُ به وجوبُ صدقةِ الفِطرِ والأُضحيةِ، وحِرمانُ الزَّكاةِ؛ وهو: أن يملِكَ ما يفضُلُ عن حوائجِهِ الأصليَّةِ ما يبلُغُ قيمتُه مائتا درهمٍ.
          الثالثة: الغنى في حرمةِ السؤال، قيل: أن يملِكَ ما قيمتُه خمسون دِرهماً، وقال عامَّةُ العلماء: مَن ملَكَ قوتَ يومِه، وما يستُرُ به عورتَه، يحرمُ عليه السؤالُ، وكذا الفقيرُ القويُّ على الاكتسابِ يحرُمُ عليه السؤالُ، انتهى ملخَّصاً.