إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله

          4777- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ: ”حدَّثنا“ (إِسْحَاقُ) بنُ إبراهيمَ المعروف بابن رَاهُوْيَه (عَنْ جَرِيرٍ) هو ابنُ عبدِ الحميد (عَنْ أَبِي حَيَّانَ) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتيَّة؛ يحيى بنِ سعيدٍ الكوفيِّ (عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) هَرِم بن عمرو بن جرير البَجليِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ يَوْمًا بَارِزًا) ظاهرًا (لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ) مَلَكٌ في صورة رجلٍ؛ وهو جبريلُ ◙ ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”إذ جاءَه رجلٌ“ (يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِيمَانُ؟) أي: ما متعلَّقاتُه؟‼ (قَالَ) ╕ : (الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ) أي: تُصَدِّقَ بوجودِه وبصفاتِه الواجبة (وَمَلَائِكَتِهِ) ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ زيادة: ”وكتبه“ بأنْ تُصَدِّقَ بأنَّها(1) كلامُه تعالى، وأنَّ ما اشتملت عليه حقٌّ لا ريبَ فيه (وَرُسُلِهِ) بأنَّهم صادقونَ فيما أَخبروا به عنِ الله (وَلِقَائِهِ) برؤيتِه تعالى في الآخرة (وَتُؤْمِنَ) أي(2): تُصَدِّقَ أيضًا (بِالبَعْثِ الآخِرِ) بكسر الخاء، أي: مِنَ القبور وما بعدَه، وأعاد «تُؤْمِن»؛ لأنَّه إيمانٌ بما سيُوجَد، وما سبقَ إيمانٌ بالموجود، فهما نوعان (قَالَ) أي: جبريل: (يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ) ╕ : (الإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ) أي: تُطيعَه (وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) المكتوبة (وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ) قال في «المصابيح»: لم يقيِّد الصلاة بالمكتوبة؛ وإنَّما قيَّد الزكاة، مع أنَّها إنَّما تُطلَق على المفروضة، بخلاف الصلاة، فتأمَّل السِّرَّ في ذلك. انتهى. وقد سبق في «كتاب الإيمان» [خ¦50] أنَّ تقييدَ الزكاة بالمفروضة احترازٌ عن(3) صدقةِ التَّطوُّع؛ فإنَّها زكاة لغويَّة أو مِن المعجَّلة، وفي رواية مسلم: «تقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة» (وَتَصُومَ رَمَضَانَ) زاد في رواية كَهْمَس: «وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا»، فلعلَّ راوي حديث الباب نسيَه (قَالَ) أي: جبريل: (يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِحْسَانُ؟) المتكرِّر في القرآن المترتِّب عليه الأجرُ، وقال الخطابيُّ: المرادُ بـ «الإحسان» هنا: الإخلاص، وهو شرطٌ في صِحَّة الإيمان والإسلام معًا؛ لأنَّ مَن تلفَّظ مِن غير نيَّة إخلاصٍ؛ لم يكن محسنًا (قَالَ) ╕ : (الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ) أي: عبادتك الله حالَ كَونِكَ في عبادتك له (كَأَنَّكَ تَرَاهُ) في إخلاص العبادة لوجهه الكريم، ومجانبة الشرك الخفي (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ) فلا تغفل، واستمِرَّ على إحسان العبادة (فَإِنَّهُ يَرَاكَ) وهذا تَنَزُّلٌ مِن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة (قَالَ) جبريل: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟) أي: قيامُها، وسُمِّيتِ الساعة؛ لوقوعها بغتةً أو لسُرعة حسابها (قَالَ) أي(4): النَّبيُّ صلعم : (مَا المَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) «ما» نافية؛ يعني: لستُ أنا أعلمَ منك يا جبريل بعِلم وقت قيام الساعة (وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا) علاماتِها السابقة(5) عليها؛ وذلك (إِذَا وَلَدَتِ المَرْأَةُ) وفي رواية أبي ذرٍّ(6): ”الأَمَةُ“ (رَبَّتَهَا) بتاء التأنيث على معنى النسمة؛ ليشمل الذكر والأنثى، كناية عن كثرة السَّبْي، فيستولد الناس إماءهم، فيكون الولد كالسيِّد لأُمِّه؛ لأنَّ مِلْكَ الأمةِ راجعٌ في التقدير إلى الولد (فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) لأنَّ كثرةَ السَّبْيِ والتسرِّي دليلٌ على استعلاء الدِّين واستيلاء المسلمين، وهو مِنَ الأمارات؛ لأنَّ قوَّته وبلوغَ أمره غايته(7)، وذلك منذرٌ بالتراجع والانحطاط المنذر بأنَّ القيامة ستقوم (وَإِذَا كَانَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رُؤُوْسَ النَّاسِ) إشارةٌ إلى استيلائِهِم على الأمر، وتملُّكِهِم‼ البلادَ بالقهر، والمعنى: أنَّ الأذلَّةَ مِنَ النَّاس ينقلبون أعزَّةً ملوك الأرض (فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) واكتفى باثنتين من الأشراط مع التعبير بالجمع؛ لحصول المقصود بهما في ذلك، وعِلْمُ وقتِها داخلٌ (فِي) جملة (خَمْسٍ) مِنَ الغيب، وحذفُ متعلَّق الجارِّ سائغٌ / شائعٌ، ويجوز أن يتعلَّق بـ «أعلم» أي: ما المسؤولُ عنها بأعلم في خمس، أي: في علم الخمس، أي: لا ينبغي لأحدٍ أن يَسأل أحدًا في علم الخمس؛ لأنَّهُنَّ (لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ) وفيه إشارةٌ إلى إبطال الكهانة والنجامة وما شاكلهما، وإرشادٌ للأُمَّة وتحذيرٌ لهم عن إتيان مَن يدَّعي(8) علمَ الغيب، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والكُشْميهَنيِّ: ”وخمسٌ لا يعلمهنَّ إلَّا الله“ بواو العطف بدل الجارِّ ({إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}) في وقتِهِ المقدَّرِ له والمحلِّ المعيَّنِ له في علمه ({وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:34]) أذكر أم أنثى؟ قال في «شرح المشكاة»: فإن قيل: أليس(9) إخبارُه صلعم عن أمارات الساعة مِن قَبيلِ قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}[لقمان:34] وأجاب: بأنَّه إذا أظهر(10) بعضُ المرتَضَين مِن عباده بعضَ ما كُشِفَ له مِن الغيوب لمصلحةٍ ما؛ لا يكونُ إخبارًا بالغيب، بل يكون تبليغًا له، قال الله تعالى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}[الجن:26-27] وفائدة بيان الأمارات أن يتأهَّب المكلَّف إلى المعاد بزادِ التقوى (ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ) جبريل (فَقَالَ) النبيُّ صلعم للحاضرين(11) من أصحابه: (رُدُّوا عَلَيَّ) بتشديد الياء، أي: الرجلَ (فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوا) بحذف ضمير المفعول للعِلْمِ به (فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا) لا عينًا ولا أثرًا (فَقَالَ) ╕ : (هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ) أي: قواعد دينِهِم، وإسنادُ التعليم(12) إليه وإن كان سائلًا؛ لأنَّه كان سببًا في التعليم.
          وهذا الحديث قد سبق في «كتاب الإيمان» [خ¦50].


[1] في (م): «أنه»، وفي (ص): «بأن».
[2] زيد في غير (د) و(م): «أن».
[3] في (ص) و(م): «من».
[4] «أي»: مثبت من (د).
[5] في (م): «التابعة».
[6] «أبي ذرٍّ»: ليس في (د) و(م).
[7] في الأصول زيادة: «وذلك» والسياق بدونها أليق.
[8] في (د): «ادَّعى».
[9] في (م): «ليس».
[10] في (ص): «ظهر».
[11] في (ص): «للحاضر».
[12] في (د): «التَّعلُّم».