إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا}

          ░2▒ ({وَجَاوَزْنَا}) وفي نسخةٍ: ”باب: {وَجَاوَزْنَا}“ ({بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}) بحر القَلْزَمِ حافظين لهم، وكانوا فيما قيل: ست مئة ألفٍ وعشرين(1) ألف مقاتلٍ، لا يعدُّون فيهم ابن عشر سنين لصغره ولا ابن ستِّين لكبره ({فَأَتْبَعَهُمْ}) أي: أدركهم ({فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا}) عند شروق(2) الشَّمس، وكانوا فيما قيل: ألف ألفٍ وست مئة ألفٍ، وفيهم مئة ألف حصانٍ أدهمَ ليس فيها أنثى، وعن ابن عبَّاسٍ _فيما رواه ابن مردويه بسنده_: كان مع فرعون سبعون قائدًا، مع كلِّ قائدٍ سبعون ألفًا، وكان فرعون في الدُّهم، وهارون على مقدِّمة بني إسرائيل، وموسى في السَّاقة، فلمَّا قربت مقدِّمة فرعون منهم؛ قال بنو إسرائيل لموسى: هذا البحر أمامنا، إن دخلناه غرقنا، وفرعون خلفنا، إن أدرَكَنا قتلَنا، قال: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:62] فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[الشعراء:63] وصار اثني عشر طريقًا لكلٍّ سبطٍ واحدٌ، وأمر الله الرِّيح فنشَّفت أرضه، وتخرَّق الماء بين الطُّرق(3) كهيئة الشَّبابيك؛ ليرى كلُّ قومٍ الآخرين؛ لئلَّا يظنُّوا أنَّهم هلكوا‼، وجاوزتْ بنو إسرائيل البحر، فلمَّا خرج آخرهم منه؛ انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من النَّاحية الأخرى، فلمَّا رأى ذلك هاله وأحجم، وهاب وهمَّ بالرُّجوع، وهيهاتَ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}[ص:3] / نَفَذَ القدر، واستُجِيبَت الدَّعوة، وجاء جبريل على فرسٍ أنثى وخاض البحر، فلمَّا شمَّ أدهم فرعون ريح فرس جبريل اقتحمَ وراءه، ولم يملك فرعون من أمره شيئًا، واقتحمت الخيول خلفه في البحر، وميكائيل في ساقتهم يسوقُهم، ولا يترك أحدًا منهم إلَّا ألحقه بهم، فلمَّا تكاملوا وهمَّ أوَّلهم بالخروج منه؛ أمر الله القادر القاهر البحرَ فانطبق عليهم، فلم ينجُ منهم أحدٌ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت(4) الأمواج فوق فرعون ({حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}) وغشيته سكرات الموت ({قَالَ}) وهو كذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها: ({آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:90]) وما علم اللَّعين أنَّ التَّوبة عند المعاينة غير نافعةٍ {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}[غافر:85] ولذا قال الله تعالى في جواب فرعون: {آلآنَ} أي: أتؤمن وقت الاضطرار {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}؟[يونس:91] وفي حديث ابن عبَّاسٍ عند أحمد وغيره مرفوعًا: «لمَّا قال فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فَدَسستُهُ(5) في فِيْهِ مخافةَ أن تناله الرَّحمة» ورواه التِّرمذيُّ وقال: حسنٌ، و«حال البحر»: هو طينه الأسود، والمعنى: لو رأيتني لرأيتَ أمرًا عجيبًا، يبهَـُتُ الواصف عن كُنْهِه، فإنِّي لمَّا شاهدت تلك الحالة بُهِتُّ غضبًا على عدوِّ الله لادِّعائه تلك العظمة، فعمدت(6) إلى حال البحر فأدسُّه في فِيْهِ مخافةَ أن تدركه الرَّحمة لسعتها.
          والحاصل: أنَّه إنَّما فعل ذلك غضبًا لله، وعلمًا منه أنَّه لا ينفعه الإيمان لا أَنَّه(7) كره إيمانه، لأنَّ كراهة الإيمان من الكافر كفرٌ، لكن قال أبو منصورٍ الماتريديُّ في «التَّأويلات»: الرِّضا بالكفر ليس بكفرٍ مطلقًا(8)، إنَّما يكون كذلك إذا رضي بكفر نفسه لا بكفر غيره، ويؤيِّده قصَّةُ ابن أبي سرحٍ المرويَّةُ في «سنن أبي داود» و«النَّسائيِّ»: لمَّا جاء يوم الفتح بين يدي النَّبيِّ صلعم ، وطلب المبايعة ثلاث مرَّاتٍ، وكلُّ ذلك يأبى ثمَّ بايعه، ثمَّ أقبل على أصحابه؛ فقال: «أما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقوم إلى هذا حين رآني كففت عن بيعته فيقتله...» الحديثَ، وقيل: إنَّما قصد فرعونُ بقوله الخلاصَ، أو لأنَّه كان لمجرَّد التَّعليق(9)؛ كما قال: {آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}[يونس:90] فكأنَّه قال: لا أعرفه، فكيف يزول كفرُه بهذا التَّقليد؟! وقد رُوِيَ: أنَّ جبريل استفتاه: ما قولك في عبدٍ لرجلٍ نشأ في ماله‼ ونعمته فكفرَ نعمته(10)، وجحد حقَّه، وادَّعى السِّيادة دونه؟ فكتب: يقول الوليد بن مصعبٍ: جزاءُ العبد الخارج على(11) سيِّده الكافر نعماه أن يغرق في البحر، فلمَّا ألجمه(12) الغرق؛ ناوله جبريل خطَّه فعرفه، وسقط لأبي ذَرٍّ «{فَأَتْبَعَهُمْ}...» إلى آخره وقال: ”إلى قوله: {وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}“ ({نُنَجِّيكَ}[يونس:92]) بسكون النُّون وتخفيف الجيم؛ من «أنجى» وهي قراءة يعقوب، وفي نسخةٍ: ”{نُنَجِّيكَ}“ بتخفيف الجيم، أي: (نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الأَرْضِ؛ وَهْوَ) أي: النَّجوة (النَّشَزُ) بفتح النُّون والمعجمة آخره زايٌ؛ وهو (المَكَانُ المُرْتَفِعُ) وقرأ ابن السَّمَيْفَع: ▬ننحِّيك↨ بالحاء المهملة المشدَّدة، أي: نلقيك بناحيةٍ ممَّا يلي البحر ليراك بنو إسرائيل، قال كعبٌ: رماه إلى السَّاحل كأنَّه ثورٌ، وروى ابن أبي حاتمٍ من طريق الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا خرج موسى ╕ وأصحابه؛ قال من تخلَّف من قوم فرعون: ما غرق فرعون: وقومه، ولكنَّهم في خزائن البحر يتصيَّدون، فأوحى الله تعالى إلى البحر أنِ الفظْ فرعون عريانًا، فلفَظَه عريانًا أصلعَ أخينس قصيرًا، ومن طريق ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ(13): {بِبَدَنِكَ}[يونس:92] قال: بجسدك، ومن طريق أبي صخرٍ المدنيِّ قال: البدن: الدِّرع الَّذي كان عليه، قيل: وكانت له درعٌ من ذهبٍ يُعرَف بها، وكان في أنفسهم أنَّ فرعون أعظم شأنًا من أن يغرق.


[1] في (ج) و(ل): «عشرون».
[2] في (ص): «غروب».
[3] في (ب): «الطَّريق».
[4] في (د): «وتتراكم».
[5] في غير (د) و(ل): «فدسته».
[6] في (م): «فعهدت».
[7] في (ص): «لأنه» وهو غير صحيحٍ.
[8] «مطلقًا»: ليس في (د) و(م).
[9] في (د): «التَّقليل»، وهو غير صحيحٍ.
[10] «فكفر نعمته»: مثبت من (د) و(س).
[11] في (د) و(م): «عن».
[12] زيد في (د): «اسم الجلالة».
[13] زيد في (د): «قال».