الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب جهر الإمام بالتأمين

          ░111▒ (باب: جَهْر الإمَامِ بالتَّأمِين)
          كتب الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع»: إنْ قصد إثبات سنِّيَّة الجهر وأنَّه هو الحقُّ فغير ثابت بما ذكره في الباب، وإن قصد جواز الجهر كجواز الإسرار، فثابت بما ذكره هاهنا، وتثبت سُنِّيَّة الإخفاء بما ذكره غيره مِنْ حَمَلة الحديث.
          ثمَّ إنَّ مقصوده بقوله: (آمِينَ دُعَاء) أنَّه لمَّا كان دعاءً كان الإسرار والجهر جائزين فيه، كجوازهما في سائر الأدعية المأثورة وغيرها، قلنا: لا يجوز في شيء مِنَ الصَّلوات الجهريَّة ولا السِّريَّة أن يرفع صوته بالدُّعاء، وإن كانت صلاته لا تفسد أيضًا بذلك فيلزم أن يكون الحكم بين الدُّعاء وآمين غير مفترق حسب استدلالكم.
          وأمَّا لَجَّة المسجد بتأمين ابن الزُّبير ومَنْ معه فليس بمستلزم جهرهم به، لأنَّ اللَّجَّة واللَّجْلَجَة وهو اضطراب الصَّوت وتحرُّكه مِنْ جهة إلى جهة، وهو حاصل بالإسرار والجهر كليهما، فلا دِلالة فيه على تعليم(1)(2) [تعيين] الجهر.
          وقوله: (وكان أبو هريرة ينادي الإمام...) إلى آخره، لا ينهض حجَّة على المُدَّعَى أيضًا، لأنَّ الظَّاهر منه عدم المسارعة به حتَّى لا يحصل التَّوافق لمن خلفه، فكما تَفُوتُ المُوافقة بالإسْراع في الجهر فكذلك هو فائت في الإسرار أيضًا، لأنَّ الإمام إذا قصد الانفراغ منه بعجلةٍ كان المؤتمُّون غيرَ ملتحقين به في وقت قوله إيَّاه، وإذا تأنَّى فيه ولم يتعجَّل كانوا معه، بل الظَّاهر منه أنَّ الإمام كان يخفيه إذ لا حاجة عند جهره به إلى شيء مِنْ ذلك، فإنَّ تأمينه مسموع معلوم، فإذا قاله الإمام يقوله المؤتَمُّ أيضًا، ولا يلزم فوات المطابقة، وليس المأموم مشتغلا في شيء مِنَ القراءة وغيرها حتَّى يخلَّ ذلك بمطابقته به، بل هو فارغٌ مصغٍ إلى إمامه، فإذا سمعه يؤمِّن أخذ في التَّأمين، فأمَّا إذا أمَّنَ الإمام سرًّا فللمأموم مظنَّة الفوات إذا أسرع الإمام في تقضِّيه ولم يتأنَّ فأمَرَه ألَّا يتعجَّل.
          وكذلك قوله: (كان ابن عُمَرَ لا يَدَعُه، ويَحُضُّهم) ليس نصًّا في الجهر، بل يحتمل كلًّا منهما، وأمَّا أنَّه لو أخفاه لما سمعه نافعٌ فأمرٌ مبنيٌّ على محض توهُّم، لأنَّ كثيرًا مِنَ التَّسبيحات والثَّناء والتَّشهد وغير ذلك كان معلومًا للصَّحابة، ولم يجهر النَّبيُّ صلعم بها، فكذلك التَّأمين عَلِمَ بِه نَافِع، وإن لم يجهر به ابن عمر، بل كان ذلك بتعليمٍ منه في خارج الصَّلاة مع أنَّ مَنِ اتَّصل الإمام في الصَّفِّ ودنا منه، فإنَّه يسمع في إسراره أيضًا إذا لم يُسِرَّ أو في(3) مراتب الإسرار، بل أخذ أوسطها، وأمَّا إذا أخذ بأقصى مراتبها الدَّاخل في أدنى الجهر فلا شكَّ أنَّه يَسمعه بعضُ مَنْ يليه مِنَ الصَّفِّ الثَّاني أيضًا، فلا يبعد أن يكون ابن عمر يُسِرُّه هذا الإسْرَار، ويسمعه ويعلم به نافع وغيره ممَّن هو قريب بابن عمر، ولعلَّ هذا هو منشأ الخلاف بين لفظَي الرُّواة، فإنَّه صلعم لمَّا أسرَّ به إسرارًا دخل في أدنى الجهر، عَبَّرَه بعضهم بالجهر لمَّا رأى أنَّ صوته في التَّأمين فوق صوته بالقراءة في السِّريَّة، ومَنْ رأى أنَّ صوته بالتَّأمين أدنى مِنْ صوته بالقراءة في الجهرية عَبَّرَه بالإسرار، ولا يضرُّ لو ثبت أنَّه صلعم جهر بالتَّأمين حتَّى سمعه غير مَنْ في الصَّفِّ المتقدِّم مع أنَّه لم يثبت، وذلك، لأنَّه لو ثبت منه ذلك لكان سبيله سبيل إسماع الآية أحيانًا في الصَّلاة السِّريَّة، فكما لا تثبت سنِّيَّة إسماع الآية لا تثبت سنِّيَّة الجهر بالتَّأمين، وأمَّا تعويل المؤلِّف في احتجاجه بالرِّواية الموردة في الباب فأمرٌ مطرب عجاب، لأنَّها لا تدلُّ على مدَّعاه بوجه، ولعلَّه استند / بذلك الحديث بأنَّ المأمور به مطلقُ القول، وظاهره الجهر، وأنت تعلم ما فيه، فقد ورد في غير ذكر ولا ذكرين أنَّه صلعم كان يقوله مع أنَّ الجهر لم يكن مرادًا فيه ولا ثابتًا، نعم يمكن أن يكون احتجاجه بعموم قوله صلعم: (فَقُولُوا) لأنَّه يتناول الجهر والإسرار، فلا يتقيَّد بأحد متناوَلَيه، وهذا مع أنَّه لا يستلزم مدَّعاه _وهو إثبات الجهر_ مدفوع بأنَّ المطلق كثيرًا ما يتقيَّد بالنُّصوص الأخر الدَّالَّة على تقييده، مع أنَّ الأمر بهذا الاهتمام ومزيد الاعتناء به يقتضي أنَّ الإمام جاهر به، إذ لو كان جاهرًا لم تكن لموافقة(4) مظنَّة فوات، مع أنَّه قد ورد في بعض طرقه: (إذَا قَالَ الإِمَامُ: وَلاَ الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينَ)، فعُلم أنَّهم ليس لهم سماع لتأمين الإمام، وإلَّا لما بنى الأمر على ختمة الفاتحة لكون التَّأمين مسموعًا، فلا يفتقر إلى إبداع علامة له، وكذلك قول ابن شهاب: ((وكان رسول الله صلعم يقول: آمين))، غير مثبت للمراد وإذا لا تنصيص فيه على الجهر والقول لا يساوق الجهر. انتهى.
          ومسألة الجهر بالتَّأمين خلافيَّة شهيرة، وجملتها أنَّ الإمام يجهر بالتَّأمين في الجهريَّة عند أحمد، وهو القول القديم للشَّافعيِّ، ويُسِرُّ عند الحنفيَّة، وهو القول الجديد للشَّافعيِّ، وبه قالت المالكيَّة كما قال الباجيُّ، وهكذا المذاهب بعينها في المأموم كما في «الأوجز» عن كتب فروعهم. انتهى مِنْ «هامش اللَّامع».
          وفي «تراجم شيخ المشايخ»: أنت تعلم أنَّ ما وقع في حديث الباب مِنْ قوله: (وإذا قال الأئمَّة) كذا في الأصل والصَّواب بدله: (إذا أمَّنَ الإمام...) (5) إلى آخره، لا يدلُّ على ترجمة الباب ظاهرًا، ولهذا استدلَّ بهذا الحديث مَنْ قال بأنَّ التَّأمين للمأموم دون الإمام.
          وقال الشَّافعيُّ ☼: معناه أنَّه إذا قال الإمام: هذا اللَّفظ فاسعدوا(6) التَّأمين، فإنَّه هو أيضًا يقول ذلك، [و] (7) يستحسن لكم أن توافقوه في زمانه(8).
          وكان(9) المؤلِّف أشار بعقد التَّرجمة إلى أنَّ الحديث محمول على هذا المعنى، ومثله لا يُسْتَنْكَر مِنَ البخاريِّ. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((تعيين)).
[2] هكذا وردت في الأصل ولعل ما بين حاصرتين أوضح لسياق النص والله أعلم
[3] في (المطبوع): ((لم يسر أدنى)).
[4] في (المطبوع): ((الموافقة)).
[5] قوله: ((كذا في الأصل والصَّواب بدله: (إذا أمَّنَ الإمام...))) ليس في (المطبوع).
[6] كذا في الأصل ولعلها فاستعدوا للتأمين والله أعلم
[7] قوله: ((و)) ليس في (المطبوع).
[8] لم أجد القول المنسوب للشافعي والوارد في كتابه الأم (قال الشافعي) فإذا فرغ الإمام من قراءة أم القرآن قال آمين، ورفع بها صوته ليقتدي به من كان خلفه فإذا قالها قالوها وأسمعوا أنفسهم .(الأم1/131)
[9] في (المطبوع): ((وكأن)).