الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

كتاب فضائل الصحابة

          ░62▒ [كتاب فضائل الصَّحابة]
          ░1▒ (باب: فَضَائِل أصْحَاب النَّبيِّ صلعم...) إلى آخره
          قال الحافظ: أي: بطريق الإجمال ثمَّ التَّفصيل، أمَّا الإجمال فيشمل جميعهم، لكنَّه اقتصر فيه على شيء ممَّا يوافق شرطه، وأمَّا التَّفصيل فلمن ورد فيه شيء بخصوصه على شرطه، وسقط لفظ: (باب) مِنْ رواية أبي ذرٍّ وحده. انتهى.
          قلت: وللصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فضيلة يشمل جميعهم ويعمُّ كلَّهم، وهي أنَّهم ♥ مِنْ خير القرون ابتداءً وانتهاءً، أمَّا الأوَّل فلحديث أبي هريرة: (بُعِثْتُ مِن خَير قُرُون بني آدمَ قَرْنًا فقَرْنًا) كما تقدَّم في (باب: صفة النَّبيِّ صلعم) وأمَّا باعتبار الانتهاء فلحديث: (خيرُ القُرُون قَرْني، ثمَّ الَّذِينَ يلَونَهُم)... الحديث، وتوضيح الكلام قد مرَّ معنا(1) في (باب: صِفة النَّبيِّ صلعم).
          ثم إنَّ العلماء قد ذكروا ترتيب الصَّحابة مِنْ حيثُ التَّفضيلُ مجملًا، فكتب مولانا أحمد عليٍّ المحدِّث السَّهارنفوريُّ في «هامش البخاريِّ» وفي «شرح السُّنَّة»: قال أبو منصور البغداديُّ: أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة على ترتيب الخلافة، ثمَّ تمام العشرة، ثمَّ أهل بدر، ثمَّ [أهل] أُحُد، ثمَّ بيعة الرِّضوان، ومَنْ له مزيَّة مِنْ أهل العَقَبَتَين مِنَ الأنصار، وكذلك السَّابقون الأوَّلون، وهم مَنْ صلَّى [إلى] القبلتين، وقيل: أهل بيعة الرِّضوان. انتهى.
          قوله: (ومَن صَحِب النَّبيَّ صلعم أو رَآه...) إلى آخره، يعني أنَّ اسم صحبة النَّبيِّ صلعم مُسْتَحَقٌّ لمن صَحِبه أقلَّ ما يُطلق عليه اسم صُحْبَة لغةً، وإن كان العُرف يخصُّ ذلك ببعض المُلازَمَة، ويُطلق أيضًا على مَنْ رآه رؤية ولو على بُعْدٍ وهذا الَّذِي ذكره البخاريُّ هو الرَّاجح، إلَّا أنَّه هل يُشترط في الرَّائي أن يكون بحيث يُمَيِّز ما رآه أو يُكتفى بمجرد حصول الرُّؤية؟ محلُّ نَظَر، وعملُ مَنْ صنَّف في الصَّحابة يدلُّ على الثَّاني، فإنَّهم ذكروا مثل محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، وإنَّما وُلد قبل وفاة النَّبيِّ صلعم بثلاثة أشهر وأيَّام، كما ثبت في الصَّحيح أنَّ أُمَّه أسماء بنت عُمَيْس ولدَتْه في حَجَّة الوداع قبل أن يدخلوا مكَّة، وذَلك في أواخر ذي القَعدة سنة عشر مِنَ الهجرة(2)، ومع ذلك فأحاديث هذا الضَّرب مرَاسِيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفراينيِّ ومَنْ وافقه على ردِّ المراسيل مُطْلقًا حتَّى مراسيل الصَّحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء، لأنَّ أحاديثهم لا مِنْ قَبيل مراسيل كبار التَّابعين، ولا مِنْ قَبيل مراسيل الصَّحابة الَّذِينَ سمعوا مِنَ النَّبيِّ صلعم، وهذا ممَّا يُلْغَزُ به، فيقال: صحابيٌّ حديثه مرسل لا يقبله مَنْ يقبلُ مراسيل الصَّحابة، ومنهم مَنْ بالغ، فكان لا يَعدُّ في الصَّحابة إلَّا مَنْ صَحِبَ الصُّحْبة العُرفيَّة، كما جاء عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سَرْجَس رسُول الله صلعم غير أنَّه لم يكن له صحبة، أخرجه أحمد، وكذا رُوي عن سعيد بن المسيِّب أنَّه كان لا يَعُدُّ في الصَّحابة إلَّا مَنْ أقامَ مع النَّبيِّ صلعم سنةً فصاعدًا، أو غزا معه غزوةً فصاعدًا، والعمل على خلاف هذا القول لأنَّهم اتَّفقوا / على عَدِّ جمعٍ جمٍّ في الصَّحابة لم يجتمعوا بالنَّبيِّ صلعم إلَّا في حجَّة الوداع، ومَنِ اشترط الصُّحبة العُرفيَّة أخرج مَنْ له رؤية أو مَنْ اجتمع به، لكن فارقه عن قرب، ومنهم مَنِ اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغًا، وهو مردود أيضًا لأنَّه يُخرج مثل الحسن بن عليٍّ ونحوه من أحداث الصَّحابة، وَالَّذِي جزم به البخاريُّ هو قول أحمد والجمهور مِنَ المحدِّثين، وقول البخاريِّ: (مِنَ المسلمين) قيدٌ يخرج به مَنْ صَحِبَه أو مَنْ رآه مِنَ الكفَّار، فأمَّا مَنْ أسلم بعد موته منهم فإن كان قوله: (مِنَ المسلمين) حالًا خرج مَنْ هذه صفتُه وهو المعتمد، ويرِدُ على التَّعريف مَنْ صحبه أو رآه مؤمنًا به ثمَّ ارتدَّ بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فإنَّه ليس صحابيًّا اتِّفاقًا، فينبغي أن يزاد فيه (ومات على ذلك) مثل ربيعة بن أميَّة بن خلف الجُمَحِيِّ، وقد وقع حديثه في «مسند أحمد» وإخراج حديثِ مثلِ هذا مشكلٌ، ولعلَّ مَنْ أخرجه لم يقف على قصَّة ارتداده، فلو ارتدَّ ثمَّ عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيًا بعد عوده فالصَّحيح أنَّه معدود في الصَّحابة لإطباق المحدِّثين على عدِّ الأَشْعَث بن قيس ونحوه ممَّن وقع له ذلك، وهل يختصُّ جميع ذلك ببني آدم أو يعمُّ غيرهم مِنَ العقلاء؟ محلُّ نظر.
          أمَّا الجنُّ فالرَّاجح دخولهم، لأنَّ النَّبيَّ صلعم بُعِثَ إليهم قطعًا، وهم مكلَّفُون، فيهم العصاة والطَّائعون، مَنْ(3) عُرِف اسمه منهم لا ينبغي التَّرَدُّد في ذكره في الصَّحابة، وإن كان ابن الأثير عابَ ذلك على أبي موسى، فلم يستند في ذلك إلى حجَّة.
          وأمَّا الملائكة فيتوقَّف عدُّهُم فيهم على ثبوت بِعْثَتِه إليهم، فإنَّ فيه خلافًا بين الأُصوليِّين حتَّى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضُهم، وهذا كلُّه فيمن رآه، وهو في قيد الحياة الدُّنيويَّة.
          أمَّا مَنْ رآه بعد موته وقبل دفنه فالرَّاجح أنَّه ليس بصحابيٍّ، وإلَّا لعُدَّ مَنِ اتَّفق أنْ يَرى جَسَده المكرَّم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار، وكذلك مَنْ كُشِف له عنه مِنَ الأولياء فرآه كذلك على طريق الكرامة، وكذلك المراد بهذه الرُّؤية مَنِ اتَّفقت له وهو يقظان.
          أمَّا مَنْ رآه في المنام وإن كان قد رآه حقًا فذلك ممَّا يرجع إلى الأمور المعنويَّة لا الأحكام الدُّنيويَّة فلا يعدُّ صحابيًّا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة، والله تعالى أعلم (4) باختصار يسير.
          وهذه المسألة مِنْ مسائل الأصول بسط الكلام عليه الحافظ في مبدأ كتابه «الإصابة»، وابن عبدِ البرِّ في «الاستيعاب»، والسُّيوطيُّ في «التَّدريب».
          ثمَّ اعلم أنَّ المصنِّف ⌂_كما قال الحافظ_ لم يراعِ التَّرتيب في أسماء مَنْ ذَكر مِنَ الصَّحابة في أبواب المناقب لا مِنْ حيثُ الأفضليَّة ولا مِنْ حيثُ السَّابقيَّة ولا الأسَنِّيَّة، وهذه هي جهات التَّقديم في التَّرتيب، وهذا يدلُّ على أنَّه كَتب كلَّ ترجمة على حِدة، فضمَّ بعضُ النَّقَلة بعضَها إلى بعضٍ.


[1] في (المطبوع): ((منا)).
[2] قوله: ((وذَلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة)) ليس في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((فمن)).
[4] فتح الباري: ج7/ص4