الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

كتاب الأنبياء على نبينا

          ░60▒ كتاب الأنبياء على نبيِّنا وعليهم الصَّلاة والسَّلام
          في رواية كريمة: <كتاب أحاديث الأنبياء ╫>، وفي بعض النُّسخ: <باب: خلق آدم صلعم> مِنْ غير ذكر شيءٍ غيره، قاله العَينيُّ.
          قال الحافظ: الأنبياء: جمع نبيٍّ، وقد قرئ بالهمز، فقيل: هو الأصل، وتركُه تسهيل، وقيل: الَّذِي بالهمز مِنَ النَّبأ، وَالَّذِي بغير همز / مِنَ النَّبْوَة، وهي الرِّفْعَة، والنُّبُوَّة نعمة يمنُّ بها على مَنْ يشاء، ولا يبلغها أحد بعلمه ولا كشفه، ولا يستحقُّها باستعداد ولايته، ومعناها الحقيقيُّ شرعًا: مَنْ حصلتْ له النُّبوَّة، وليست راجعةً إلى جسم النَّبيِّ صلعم، ولا إلى عَرَض مِنَ أعراضه، بل ولا إلى علمه بكونه نَبِيًّا، بل المرجع إلى إعلام الله له بأنِّي نبَّأتك أو جعلتك نَبِيًّا، وعلى هذا فلا تبطل بالموت كما لا تبطل بالنَّوم والغفلة.
          قال الحافظ أيضًا: وقع في ذكر عدد الأنبياء حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((إنَّهم مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرُّسل منهم ثلاث مئة وثلاث عشرة)) صحَّحه ابن حِبِّان، وهكذا في العينيِّ.
          وزاد: وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلعم: ((بَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ آلاَفِ نَبِيٍّ: أَرْبَعَةَ آلاَفٍ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَرْبَعَةَ آلاَفٍ إِلَى سَائِرِ النَّاس)) رواه أبو يَعلى الموصليُّ، وعنه قال: قال رسول الله صلعم: ((بُعثت عَلَى إِثْرِ ثَمَانِيَةِ آلافِ نَبِيٍّ، مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيليُّ. انتهى.
          قلت: وحديث أبي ذرٍّ المتقدِّم في كلام الحافظ والعينيِّ ذكره ابن الجوزيِّ في «التلقيح» مفصَّلًا كما ذكر في «هامش اللَّامع».
          وقال القاري في شرح حديث أبي ذرٍّ: العدد في هذا الحديث وإن كان مجزومًا به، لكنَّه ليس بمقطوع، فيجب الإيمان بالأنبياء والرسل مجملًا مِنْ غير حصر في عدد لئلَّا يخرج أحد منهم ولا يدخل أحد مِنْ غيرهم فيهم. انتهى.
          ثم لا يذهب عليك أنَّ الإمام البخاريَّ ☺ كما أنَّه مجتهد في المسائل الفقهيَّة لا يبالي خلاف أحد، كذلك له رأي مستقلٌّ في التَّاريخ لا يبالي خلاف المؤرِّخين، كما سترى في ذكر ترتيب الأنبياء، فقد ترى أنَّه ذكر إدريس بعد نوح، وجمهور المؤرِّخين على أنَّ إدريس مِنْ أجداد نوح ♂، إلَّا أنَّ البخاريَّ خالَفهم، فذكره بعد نوح، ولعلَّ مستنده في ذلك حديثُ المعراج، وقد ذكره المصنِّف في (باب: ذكر إدريس)، فإنَّه وقع فيه قول إدريس للنَّبيِّ صلعم: (مَرْحَبًا بِالنَّبيِّ الصَّالِحِ والأَخِ الصَّالِحِ) فلو كان إدريس مِنْ أجداد نوح لما قال: (بالأخ الصَّالح)، بل قال: بالابن الصَّالح، وهو استدلال جيِّد، وإليه ذهب الشَّيخ أبو بكر بن العربيِّ، وأجاب عنه الجمهور بأنَّه قال ذلك على سبيل التَّواضع والتَّلطُّف، فليس ذلك نصًّا فيه، وهكذا ترى في مواضع أخر.
          وترتيبهم على ما ذكره ابن الجوزيِّ في «التَّلقيح» إذ قال: ذكر ترتيب كبار الأنبياء: كان مِنْ بعد آدم شيثٌ ◙، وهو وصيُّ آدم، وأنزل الله عليه خمسين صحيفة، قال محمَّد بن جرير: وإلى شيثٍ ينتهي أنساب بني آدم كلِّهم اليوم، وذلك أنَّ نسل ولد آدم غير نسل شيثٍ انقرضوا فلم يبقَ أحد منهم، ثمَّ كان إدريس ◙، قال أبو بكر بن أبي خيثمة: وكان مِنْ بعد [بياض في الأصل] [ إدريس] نوح، ثمَّ هود، ثمَّ صالح، ثمَّ إبراهيم، ثمَّ كان لقمان الحكيم، وكان،[بياض في الأصل] موسى بن ميشا ثمَّ مِنْ بعدهم موسى بن عمران، ثمَّ يوشع بن كالب بن يوقنا، ثمَّ حزقيل، ثمَّ إلياس، ثمَّ طالوت الملك، ثمَّ داود ثمَّ سليمان ثمَّ أيُّوب، ثمَّ يونس بن متَّى، ثمَّ شعيا، ثمَّ أمصيا، ثمَّ زكريَّا، ويحيى، وعيسى، وأرميا، وكان ذو القرنين بين عيسى ومحمَّد صلوات الله وسلامه على نبيِّنا وعليهم أجمعين [ في الفترة].
          قال المصنِّف: كذا ذكروا، والصَّواب أنَّ ذو(1) القرنين كان في زمن الخليل ╕ إلَّا أن يعنيَ(2) به اليونانيَّ. انتهى.
          ░1▒ (باب: خَلْقِ آدَمَ وذُرِّيَّتَه)
          ذكر المصنِّف آثارًا، ثمَّ أحاديث تتعلَّق بذلك، وممَّا لم يذكره ما رواه التِّرمذيُّ والنَّسَائيُّ والبزَّار، وصحَّحه ابن حِبَّان عن أبي هريرة مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثمَّ جَعَلَهُ طِينًا، ثمَّ تَرَكَهُ حتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا، خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، ثمَّ تَرَكَهُ حتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ، قَالَ: فَكَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ، فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، ثمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ، فَكَانَ أوَّلَ شَيْءٍ جَرَى فِيهِ الرُّوحُ بَصَرُهُ وَخَيَاشِيمُهُ، فَعَطَسَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ حَمْدَ رَبِّهِ، فَقَالَ الرَّبُّ(3): يَرْحَمُكَ رَبُّكَ)) الحديث، وفي الباب / عدَّة أحاديث منها حديث أبي موسى مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْض)) الحديث أخرجه أبو داود والتِّرمذيُّ وصحَّحه ابن حِبَّان.
          وآدم: اسم سُريانيٌّ، وهو عند أهل الكتاب آدام_بإشباع فتحة الدَّال بوزن خاتام_ وزنه فاعال، وامتنع صرفه للعجمة والعلميَّة، وقال الثَّعلبيُّ: التُّراب بالعبرانيَّة آدام، فسمى(4) آدم به، وحذفت الألف الثَّانية، وقيل: هو عربيٌّ جزم به الجوهريُّ والجواليقيُّ، وقيل: هو بوزن أفعل مِنَ الأُدْمة، وقيل: مِنَ الأديم لأنَّه خُلق مِنْ أديم الأرض، وهذا عن ابن عبَّاسٍ، ووجهوه بأنَه يكون كأعين، ومُنع الصَّرفَ للوزن والعلميَّة، وقيل: هو مِنْ أَدَمْتُ بين الشَّيئين إذا خلطتَ بينهما لأنَّه كان ماء وطينًا، فخُلطا جميعًا. انتهى.
          قوله: (صلصال طين...) إلى آخره وكتب الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» وذلك لأنَّ الصَّوت مأخوذ في معناه، ولا يتصوَّت الطِّين ما لم يخالط معه شيء كالرَّمل ونحوه، وقيل: معناه: المنتن، وأيًّا ما كان فهو مضاعف، وأصله الصَّلُّ فأُلحق بالرُّباعيِّ مبالغةً في المعنى. انتهى.
          وقال الحافظ: قوله(5): (طين خُلِط...) إلى آخره هذا هو تفسير الفرَّاء، هكذا ذكره، وقال أبو عبيدة: الصَّلصال اليابس الَّذِي لم تصبْه نار، فإذا نقرته صَلَّ فسَمعت له صَلصَلة، فإذا طُبخ بالنَّار فهو فخَّار، وكلُّ شيء له صوتٌ فهو صَلصَال، وروى الطَّبَريُّ عن قتادة بإسناد صحيح نحوَه. انتهى.
          قال المجد: صَلَّ [يَصِلُّ] صَليلًا: صَوَّتَ، كَصَلْصَلَ صَلْصَلَةً ومُصَلْصَلًا. انتهى.
          (وطوله ستُّون ذراعًا) قالَ السِّنْديُّ: الظَّاهر بالذِّراع المتعارف يومئذٍ عند المخاطَبين، وقيل: بذراع نفسه، وهو مردود بأنَّ الحديث مسوق للتَّعريف، فهذا ردٌّ إلى الجهالة، لأنَّ حاصله أنَّ ذراعه جزءٌ مِنْ ستِّينَ جزءًا للطُّول، وهذا يُتُصَوَّر في طويل غاية الطُّول وقصيرٍ غاية القِصر، وبأنَّ ذراع كلِّ واحد مثل رُبعه، فلو كان ستِّين ذراعًا بذراع نفسه لكانت يده قصيرة في جنب طول جسده جدًّا، ويلزم منه قبح الصُّورة وعدمُ اعتدالها، وأن يكون عديم المنافع المعدَّة لها اليدان، وقد وقع هنا في عبارة الحافظ ابن حَجَر سهوٌ، وتبعه القَسْطَلَّانيُّ في ذلك. انتهى.
          قلت: وعبارة الحافظ في «الفتح» يحتمل أن يريد بقَدْر ذراع نفسه، ويحتمل أن يريد بقَدْر الذِّراع المتعارف يومئذ عند المخاطبين، والأوَّل أظهر، لأنَّ ذراع كلِّ أحد بقَدْر ربعه، فلو كان بالذِّراع المعهود لكانت يده قصيرة في جنب طول جسده. انتهى.
          قوله: (فلم يَزَل الخَلْق يَنْقُص حتَّى الآن) أي: إنَّ كلَّ قرن يكون نشأته في الطُّول أقصرَ مِنَ القرن الَّذِي قبله، فانتهى تناقص الطُّول إلى هذه الأمَّة، واستقرَّ الأمر على ذلك، وقال ابن التِّين: قوله: (فلم يزل الخلق ينقص) أي: كما يزيد الشَّخص شيئًا فشيئًا، ولا يتبيَّن ذلك فيما بين السَّاعتين ولا اليومين، حتَّى إذا كثرت الأيَّام تبيَّن، فكذلك الحكم في النَّقص، ويشكل على هذا ما يوجد الآن مِنْ آثار الأمم السَّالفة كديار ثمود، فإنَّ مساكنهم تدلُّ على أنَّ قاماتهم لم تكن مفرطة الطُّول على حسب ما يقتضيه التَّرتيب السَّابق، ولا شكَّ أنَّ عهدهم قديم، وأنَّ الزَّمان الَّذِي بينهم وبين آدم دون الزَّمان الَّذِي بينهم وبين أوَّل هذه الأمَّة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال. انتهى.
          ويمكن الجواب عنه عندي بأن يقال: إنَّهم شبَّهوا العالم كلَّه بمنزلة شخص، فالزَّمن الَّذِي مِنْ آدم إلى نوح كأنَّه زمن الطُّفوليَّة، ومِنْ نوح إلى إبراهيم زمن الشَّباب، ثمَّ الزَّمن بعدُ زمنُ الكهولة كما تقدَّمت الإشارة إليه في الجزء الأوَّل في بدء الوحي تحت قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية [النِّساء:163]، وأنت خبير بأنَّ القامة في زمن الطُّفوليَّة تطول يومًا فيومًا إلى الشَّباب، ولمَّا كان هاهنا السَّير مِنَ الطُّول إلى القِصر فيكون السَّير في الأوَّل، أي: مِنْ زمن آدم إلى نوح في القصر سريعًا غاية التَّسرُّع على عكس ما يوجد مِنَ النُّمو السَّريع في زمن الطُّفوليَّة إلى الشَّباب، فافهم.
          فإنَّه دقيق.


[1] في (المطبوع): ((ذا)).
[2] في (المطبوع): ((يُعنى)).
[3] في (المطبوع): ((فقال الحمد لله فقال الله)) بدل قوله: ((فَلَقَّاهُ اللَّهُ حَمْدَ رَبِّهِ، فَقَالَ الرَّبُّ)).
[4] في (المطبوع): ((فسُمِّي)).
[5] قوله: ((قوله)) ليس في (المطبوع).