الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

كتاب الديات

           ░░87▒▒ كتاب الدِّيات
          قالَ الحافظُ: [الدِّيات]_بتخفيف التَّحتانيَّة_: جمع دِيَةٍ مثل عِدَاتٍ وعِدَة، وأصلها وَدْيَةٌ(1)_بفتح الواو وسكون الدَّال_ تقول: وَدَى القتيلَ يَدِيهِ إذا أعطى وليَّه دِيَتَهُ، وهي ما جُعل في مقابلة النَّفْس، وسُمِّي دِيَةً تسميةً بالمصدر، وفاؤها محذوفة، والهاء عِوَض.
          وأورد البخاريُّ تحت هذه التَّرجمة ما يتعلَّق بالقصاص، لأنَّ كلَّ ما يجب فيه القصاص يجوزُ العفو عنه على مال، فتكون الدِّية أشمل، وترجم غيره: كتاب القصاص، وأدخل تحته الدِّيات بناءً على أنَّ القصاص هو الأصل في العمد. انتهى.
          قلت: ويمكن أن يُوجَّه بأنَّ الإمام البخاريَّ ترجم بكتاب الدِّيات والقصاص معًا، أمَّا الأوَّل: فنصًّا، وأمَّا الثَّاني: فبإشارة الآية، فإنَّ موجب القتل العمد القصاصُ فلا إشكال بالتَّراجم الآتية المتعلِّقة بالقصاص في هذا الكتاب.
          قالَ العينيُّ: فإن قلت: ما وجهُ تصدير هذه التَّرجمة بهذه الآية؟ قلت: لأنَّ فيها وعيدًا شديدًا عند القتل متعمِّدًا بغير حقٍّ، فإنَّ مَنْ فعل هذا وصولح عليه بمال فتشمله الدِّية. انتهى.
          قلت: وهذا على ما اختاره الشُّرَّاح، وأمَّا ما اخترت كما تقدَّم مِنْ أنَّ المصنِّف أشار بهذه الآية إلى مقابل الدِّية وهو القصاص، فلا يحتاج حينئذٍ إلى ذكر مناسبة الآية بالتَّرجمة، فإنَّ الآية حينئذٍ كأنَّها جزء مِنَ التَّرجمةِ، والله تعالى أعلم بالصَّواب.
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ: والدِّية هي المال الواجب بالجناية على الحرِّ في نفسٍ أو فيما دونها، وهي مأخوذة مِنَ الوَدْي، وهو دفعُ الدِّيَة. انتهى.
          قلت: وهاهنا شيء آخر وهو الأَرْشُ، وفرَّق الفقهاء بينهما، ففي «الدُّرِّ المختار»: الدِّية في الشَّرع: اسمٌ للمال الَّذِي هو بدلُ النَّفس(2)، والأَرْشُ: اسمٌ للواجب فيما دون النَّفْس. انتهى.
          قلت: فعلى هذا بين الدِّية والأَرْش تبايُنٌ، وقالَ ابنُ عابدين: قوله: (الدِّية بدلُ النَّفس) زاد الإتقانيُّ: (أو الطَّرَف). انتهى. فعلى هذا بينهما عموم [و] خصوص مطلقًا.
          وفي «البدائع»: الجناية على الآدميِّ في الأصل أنواع ثلاثة: جناية على النَّفس مطلقًا، / وجناية على ما دون النَّفس مطلقًا، وجناية على ما هو نفسٌ مِنْ وجهٍ دون وجه، وقال أيضًا في موضع آخر: فهذه الأنواع مختلفةُ الأحكام، منها: ما يجب فيه القصاص، ومنها: ما يجب فيه دِية كاملة، ومنها: ما يجب فيه أرشٌ مقدَّر، ومنها: ما يجب فيه أرشٌ غير مقدَّر، وهو المسمَّى بالحكومة، وفيه أيضًا [في] موضع آخر: والأصل فيه_أي في وجوب الدِّية_ نصُّ الكتاب العزيز وهو قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّساء:92] والنَّصُّ وإن ورد بلفظ الخطأ لكنَّ غيره ملحق به.
          قالَ ابنُ قدامة في «المغني»: الأصل في وجوب الدِّية الكتابُ والسُّنة والإجماع، أمَّا الكتاب فذكر الآية المذكورة، وأمَّا السُّنة فروى أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كتب لعمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن، فيه الفرائض والسُّنن والدِّيات، وقال فيه: وإنَّ في النَّفس مئةً مِنَ الإبل)) رواه النَّسائيُّ في «سننه» ومالك في «موطَّئه»، قالَ ابنُ عبد البرِّ: أجمع أهل العِلم على وجوب الدِّية في الجملة. انتهى.
          ثمَّ لا يَخفى عليك مطابقة هذه الأحاديث بكتاب الدِّيات فإمَّا(3) أن يوجد بما يستفاد مِنْ كلام العينيِّ مِنْ أنَّ في هذه الأحاديث زجرًا ووعيدًا شديدًا لمن يبتلى بهذا الأمر العظيم_أعني قتل النَّفس بغير حقٍّ_ فلعلَّ وليَّ القاتل يصالح أولياء المقتول على مالٍ وهو الدِّية.
          قلت: ويمكن أن يقال: إنَّ المذكور في هذه الأحاديث هو المؤاخذة الأُخْرويَّة لِمَنْ قتل نفسًا بغير حقٍّ، ولمَّا لم يكن الحديث الدَّالُّ على وجوب الدِّية صريحًا مِنْ شرط المصنِّف، وهو حديث عمرو بن حزم المشار إليه سابقًا، والدِّية مِنَ المؤاخذة الدُّنْيويَّة أشار بإيراد أحاديث النَّوع الأوَّل مِنَ المؤاخذة إلى أحاديث النَّوع الثَّاني منه، فتأمَّلْ، ففيه إيثار الأخفى على الأجلى كما هو مِنْ دأب المصنِّف. ويمكن أن يقال: إنَّ المقصود مِنَ الدِّية القصاص(4) كما قالوا: هو التَّشفِّي، أي: تشفِّي أولياء القتيل بأخذ الدِّية أو بأخذ القصاص، وهذا التَّشفِّي يحصل أيضًا بهذه الأحاديث المذكورة هاهنا، فإنَّ فيهما زجرًا وتوبيخًا لمن يخوض في هذه الجريمة.


[1] كذا في الأصل والظَّاهر بدله ودي
[2] في (المطبوع): ((للنفس)).
[3] في (المطبوع): ((فأما)).
[4] في (المطبوع): ((والقصاص)).