الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

كتاب الإكراه

           ░░89▒▒ كتاب الإِكْرَاه
          ومناسبة هذا الكتاب بما قبله ما قالَ الحافظُ: ولمَّا كان المرتدُّ قد لا يكفر إذا كان مكرهًا، قال: كتاب الإكراه، وكأنَّ المكرَهَ قد يُضْمِرُ في نفسه حيلةً دافعةً، فذَكَرَ الحِيَلَ ما يحلُّ منها وما يحرُم. انتهى.
          وقد تقدَّم الكلام على مناسبة التَّرتيب بين الكتب والأبواب في مقدِّمة «اللَّامع».
          قالَ الحافظُ: الإكراه هو إلزام الغير بما لا يريده، وشروط الإكراه أربعة: الأوَّل: أن يكون فاعله قادر على إيقاع ما يهدِّد به، والمأمور عاجزًا عن الدَّفع ولو بالفِرار، الثَّاني: أن يغلب [على] ظنِّه أنَّه إذا امتنع أوقع به ذلك، الثَّالث: أن يكون ما هدَّده به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك(1) غدًا لا يُعَدُّ مكرهًا، ويستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًّا، أو جرت العادة بأنَّه لا يُخْلِف، الرَّابع: ألَّا يظهر مِنَ المأمور ما يدلُّ على اختياره... إلى آخر ما بسط.
          وفي «الدُّرِّ المختار»: والإكراه نوعان: تامٌّ: وهو الملجئ بتلف نفسٍ أو عضوٍ أو ضربٍ مبرِّح، وإلَّا فناقص: وهو غير الملجئ، وشرطه أربعة أمور... إلى آخر ما بسط.
          وبسط الكلام على أنواعه وفروعه في «البدائع» و«أصول البزدويِّ»، ففيه: الإكراه ثلاثة أنواع:
          1_ نوع: يُعْدِم الرِّضا ويُفْسِد الاختيار وهو الملجئ.
          2_ ونوع: يُعْدِم الرِّضا ولا يفسد الاختيار وهو الَّذِي لا يلجئ.
          3_ ونوع: آخر لا يُعْدِم الرِّضا وهو أن يهتمَّ بحبس أبيه أو ولده.
          ثمَّ قالَ: والإكراه بجملته لا ينافي أهليَّة، ولا يوجب وضع الخِطاب بحال، لأنَّ المكرَهَ مبتلًى، والابتلاء يحقِّق الخِطاب، إلى أن قال: فثبت بهذه الجملة أنَّ الإكراه لا يصلح لإبطال حكم شيء مِنَ الأقوال والأفعال جملةً إلَّا بدليل غيره على مثال فعل الطَّائع. انتهى.
          وقالَ الكَرْمانيُّ: والإكراه الإلزامُ على خلاف المراد، وهو يختلف باختلاف المكرَهِ [والمكرَهِ عليه] والمكرَهِ به. انتهى.
          ثمَّ إنَّ الإمام البخاريَّ_رحمه الله ورضي عنه_ قد شدَّد الكلام على الإمام الهمام أبي حنيفة في هذا الكتاب، وكذا في كتاب الحيل كما سترى، وسيأتي بقيَّة الكلام عليه في محلِّه في (باب: إذا أُكْرِهَ حَتَّى وهب عبدًا...) إلى آخره.
          <باب: قول الله ╡: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106]>
          هكذا في «النُّسخة الهنديَّة» الَّتي بأيدينا بإثبات لفظ (الباب) قبل الآية، وليس في شيء مِنْ «نسخ الشُّروح الأربعة» هاهنا لفظة (باب)، ولم يتعرَّضوا له أيضًا.
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ: قالَ ابنُ جرير: ((أخذ المشركون عمَّار بن ياسر، فعذبوه حَتَّى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النَّبيِّ صلعم، فقالَ النَّبيُّ صلعم: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: مطمئنًّا بِالإِيمَانِ، قالَ النَّبيُّ صلعم: إِنْ عَادُوا فَعُد)) ورواه البَيْهَقيُّ بأبسط منها، وفيه: ((أنَّه سبَّ النَّبيَّ صلعم وذكر آلهتهم بخير، فذكر ذلك لرسول الله صلعم فقال: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قال: مطمئنًّا بالإيمان، قال: إِنْ عَادُوا فَعُد)) وفي ذلك أنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، ومِنْ ثَمَّ اتُّفق على أنَّه يجوز أن يواطئ المكره على الكفر إبقاءً لمهجته، والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله.
          وعند ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حُذافة السَّهْميِّ أحدِ الصَّحابة ♥ / أنَّه أسرتْه الرُّوم، فجاؤوا به إلى مَلِكِهم، فقال له: تنصَّرْ وأنا أُشْرِكُك في مِلكي وأزوِّجُك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العربُ على أن أرجع عن دِين محمَّد صلعم طرفةَ عينٍ ما فعلتُ، فقال: إذنْ أقتلك، قال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصُلب، وأمر الرُّمَاة، فرمَوه قريبًا مِنْ يديه ورجليه، وهو يَعرض [عليه] دِين النَّصرانيَّة فيأْبى، [ثمَّ أمر به فأُنزل]، ثمَّ أَمَر بقِدْرٍ_وفي رواية ببَقَرَةٍ_ مِنْ نحاس، فأُحميت، وجاء بأسير مِنَ المسلمين فألقاه، وهو ينظر، فإذا هو عظام يلوح(2) وعرض عليه، فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرُفع في البَكرة ليُلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إنِّي إنَّما بكيت لأنَّ نفسي إنَّما هي نفسٌ واحدة تُلقى في هذا القِدر السَّاعة في الله، وأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرة في جسدي نفسٌ تعذَّب هذا العذاب في الله، ورُوي أنَّه قبَّل رأسه [وأطلقه] وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلمَّا رجع قال عمر بن الخطَّاب ☺ : حقٌّ على كلِّ مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حُذافة، وأنا أبدأ، فقام(3) فقبَّل رأسه. انتهى مِنَ القَسْطَلَّانيِّ. وهكذا في «التَّفسير» لابن كَثير.
          وقالَ الحافظُ: والمشهور أنَّ الآية المذكورة نزلت في عمَّار بن ياسر، ثمَّ ذكر عدَّة رواياتٍ، فارجع إليه لو شئت.


[1] في (المطبوع): ((ضربتكم)).
[2] في (المطبوع): ((تلوح)).
[3] في (المطبوع): ((فقال)).