الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

كتاب الجهاد

          ░56▒ <كتاب الجهاد>
          كذا لابن شَبُّويه، وكذا للنَّسَفيِّ لكن قدَّم البسملة، وسقط <كتاب> للباقين، واقتصروا على (باب: فضل الجهاد) لكن عند القابسيِّ: <كتاب فضل الجهاد> ولم يذكر باب.
          والجهاد_بكسر الجيم_ أصله لغةً: المشَقَّة، يقال: جَهَدْت جِهَادًا: بَلَغَتُ المشقَّة، وشرعًا: بذلُ الجهد في قِتَال الكفَّار، ويطلق أيضًا على مُجَاهَدة النَّفس والشَّيطان والفُسَّاق:
          فأمَّا مجاهدة النفس فعلى تعلُّم أمور الدِّين، ثمَّ على العمل بها، ثمَّ على تعليمها.
          وأمَّا مجاهدة الشَّيطان فعلى دفع ما يأتي به مِنَ الشُّبهات، وما يزيِّنه مِنَ الشَّهوات.
          وأمَّا مجَاهَدَة الكُفَّار فتقع باليد والمال واللِّسان والقلب.
          وأمَّا مجاهدة الفُسَّاق فباليد، ثمَّ اللِّسان، ثمَّ القلب. انتهى مِنَ «الفتح».
          وفي «هامش اللَّامع»: قال ابن العربيِّ في «العارضة»: مذهب الصُّوفيَّة أنَّ الجهاد الأكبر جهاد العدوِّ الدَّاخل وهو النَّفس، قالوا: وهو المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وليس المجاهد مَنْ جاهد العدوَّ المبائن، وإنَّما المجاهد مَنْ جاهد العدوَّ المخالط، ولذا قال النَّبيُّ صلعم وقد رجع مِنْ غزوة: ((رَجعْنَا مِنَ الْجِهَاد الْأَصْغَر الى الْجِهَاد الْأَكْبَر)). انتهى مختصرًا.
          فهذا حديث معروف عند الصُّوفيَّة ذكره الغزاليُّ في عدَّة مواضع مِنَ «الإحياء»، قال صاحب «الإتحاف»: قال العراقيُّ: رواه البَيْهَقيُّ مِنْ حديث جابر، وقال: هذا إسناد فيه ضعف. انتهى.
          ثمَّ اختلفوا في حكم جهاد الكفَّار، قال الحافظ: وللنَّاس في الجهاد حالان: إحداهما في زمن النَّبيِّ صلعم.
          والأخرى: بعده.
          فأمَّا الأولى: فأوَّل ما شُرع الجهاد بعد الهجرة النَّبويَّة إلى المدينة(1) اتِّفاقًا، ثمَّ بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشَّافعيِّ، قال الماورديُّ: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيِّده وجوب الهجرة قبل الفتح في حقِّ كلِّ مَنْ أسلم / إلى المدينة لنصر الإسلام، وقال السُّهَيليُّ: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيِّده مبايعتهم النَّبيَّ صلعم ليلة العقبة على أن يُؤْوُوا رسول الله صلعم وينصروه، فيخرج مِنْ قولهما أنَّه كان عينًا على الطَّائفتين كفاية في حقِّ غيرهم، وقيل: كان عينًا في الغزوة الَّتي يخرج فيها النَّبيُّ صلعم دون غيرها، والتَّحقيق أنَّه كان عينًا على مَنْ عيَّنه النَّبيُّ صلعم في حقِّه ولو لم يخرج.
          الحال الثَّاني: بعده صلعم فهو فرض كفاية على المشهور إلَّا أن تدعو الحاجة إليه كأنْ يَدْهَمَ العدوُّ ويتعيَّن على مَنْ عيَّنه الإمام، ويتأدَّى فرض الكفاية بفعله في السَّنَة مَرَّة عند الجمهور، وقيل: تجب كلَّما أمكن، وهو قويٌّ، وَالَّذِي يظهر أنَّه استمرَّ على ما كان عليه في زمن النَّبيِّ صلعم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثمَّ صار إلى ما تقدَّم ذكره، والتَّحقيق أيضًا أنَّ جنس جهاد الكفَّار متعيِّن على كلِّ مسلم إمَّا بيده، وإمَّا بلسانه، وإمَّا بماله(2)، وإمَّا بقلبه، والله أعلم.
          وفي «البذل» عن «الهداية»: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق مِنَ النَّاس سقط عن الباقين، فإن لم يقم به أحد أثم جميع النَّاس بتركه إلَّا أن يكون النَّفير عامًّا فحينئذ يصير مِنْ فروض الأعيان لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التَّوبة:41]. انتهى.
          ░1▒ (باب: فَضْل الجِهَاد والسِّيَر...) إلى آخره
          السِّير_بكسر السِّين_: جمع السِّيرة وهي الطَّريقة، وترجموه بها لأنَّ الأحكام المذكورة فيه متلقَّاة مِنْ سيرة رسول الله صلعم في غزواته، كذا قالَ الكَرْمانيُّ وتبعه الحافظ.
          قال ابن عابدين: هذا الكتاب يعبِّر بالسِّير والجهاد والمغازي، فالسِّير جمع سيرة وهي فِعلة_بكسر الفاء_ مِنَ السَّير، فتكون لبيان هيئة السَّير وحاله إلَّا أنَّها غلبت في لسان الشَّرع على أمور المغازي وما يتعلَّق بها كالمناسك على أمور الحجِّ. انتهى.
          قال الشَّيخ ابن عابدين: وفضل الجهاد عظيم، كيف وحاصله بذلُ أعزِّ المحبوبات وهو النَّفس، وإدخال أعظم المشقَّات عليه تقرُّبًا بذلك إلى الله تعالى، وأشقُّ منه قصر النَّفس على الطَّاعات على الدَّوام ومجانبة هواها، ولذا قال صلعم... إلى آخره(3) وقد رجع مِنْ غزاة: ((رجعنا مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ)) ويدلُّ عليه أنَّه صلعم أخَّره في الفضيلة عن الصَّلاة على وقتها في حديث ابن مسعود، أي: المذكور في البخاريِّ قريبًا، ولا تردُّد في أنَّ المواظبة على أداء فرائض الصَّلاة في أوقاتها أفضلُ مِنَ الجهاد، ولأنَّها(4) فرض عين، ولأنَّ الجهاد ليس إلَّا للإيمان وإقامة الصَّلاة، فكان حسنًا لغيره والصَّلاة حسنةٌ لعينها وهي المقصودة منه. انتهى.
          قال الخَرَقيُّ: قال أبو عبد الله: لا أعلم شيئًا مِنَ العمل بعد الفرائض أفضلَ مِنَ الجهاد.
          وقال صاحب «الفيض»: إنَّ شغل العِلم أفضلُ الأشغال عند أبي حنيفة ومالك، وعند أحمد الجهادُ أفضلها، كذا في «منهاج السُّنَّة» لابن تيمية، وفي «كتاب السَّفارينيِّ» عن أحمد رواية نحو أبي حنيفة ومالك، وهذا كلُّه إذا لم يكن الجهاد فرضَ الوقتِ، لأنَّ الكلام في الفضائل دون الفرائض، وقال أيضًا في موضع آخر: إنَّ مالكًا وأبا حنيفة ذهبا إلى أنَّ الاشتغال بالعِلم خير مِنَ الاشتغال بالنَّوافل على عكس ما ذهب إليه الشَّافعيُّ، وعن أحمد روايتان:
          إحداهما: في فضل العِلم.
          وأخرى(5): في فضل الجهاد، كما في «منهاج السُّنَّة». انتهى.
          قلت: وما حكى مِنْ مسلك الشَّافعيَّة يخالفه ما في «المرقاة» عن «شرح السُّنَّة» عن الشَّافعيِّ ⌂ : طلب العِلم أفضل مِنْ صلاة النَّافلة، قال القاري: لأنَّه إمَّا فرض عين أو فرض كفاية، وهما أفضل مِنَ النَّافلة. انتهى.
          وبسط الكلام في «هامش اللَّامع».


[1] قوله: ((إلى المدينة)) ليس في (المطبوع).
[2] قوله: ((وإما بماله)) ليس في (المطبوع).
[3] قوله: ((إلى آخره)) ليس في (المطبوع).
[4] في (المطبوع): ((لأنها)).
[5] في (المطبوع): ((والأخرى)).