التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره

          ░88▒ بَابُ تَشْبِيكِ الأَصَابِع فيِ المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
          478- 479- 480- 481- 482- ساق فيه ثلاثة أحاديث:
          أحدها: عن حَامِد بْنِ عُمَرَ، عَنْ بِشْرٍ، حدَّثَنَا عَاصِمٌ، عن وَاقِدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن عُمَرَ أَوِ ابن عَمْرٍو: (شَبَّكَ النَّبِيُّ صلعم أَصَابِعَهُ).
          قال أبو عبد الله: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍ: حدثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ هذا الحَدِيثَ مِنْ أَبي، فَلَمْ أَحْفَظُه، فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيْتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ) بهذا.
          والكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث ليس موجودًا في أكثر نسخ «الصَّحيح»، ولا استخرجه الحافظان الإسماعيليُّ وأبو نُعَيمٍ، ولا ذكره ابن بطَّالٍ، وفي بعض النُّسخ ملحقًا على الحاشية. وحكى أبو مسعودٍ أنَّه رآه في كتاب أبي رُمَيْحٍ عن الفَرَبريِّ وحمَّاد بن شاكرٍ عن البخاريِّ.
          نعم ذكره خلفٌ في «أطرافه» في مسند ابن عمر، وكذا الحُميديُّ في «جمعه» في أفراد البخاريِّ من حديث واقد بن محمَّدٍ عن أبيه عن ابن عمر أو ابن عمرٍو _وعلى ابن عمرو تمريض_ قال: شبَّك النَّبيُّ صلعم أصابعه وقال: ((كَيْفَ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللهِ بن عَمْرٍو إذا بقيتَ في حثالةٍ مِن النَّاس قد مَرِجَت عهودُهم وأماناتُهم، واختلفُوا فصارُوا هكذا، قال: فكيف أفعلُ يا رسول الله؟ قال: تأخذُ ما تعرِف وتدعُ ما تُنكِرُ، وتُقبِلُ على خاصَّتِك، وتدعُهم وعوامَّهم)).
          قال الحميديُّ: هكذا في حديث بِشر بن المفضَّل عن واقدٍ، وفي حديث عاصم بن محمَّد بن زيدٍ قال: سمعت هذا مِن أبي فلم أحفظه، فقوَّمه لي واقدٌ عن أبيه، قال: سمعت أبي وهو يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلعم: ((يا عبدَ الله بن عَمرٍو كيفَ أنتَ إذا بقيتَ)) وذكره.
          الوجه الثاني: (حَامِدٌ) هذا هو البَكْرَاويُّ مِن ذريَّة أبي بَكْرةَ الثَّقفيِّ، نزيل نَيسابور وقاضي كِرْمان، مات سنةَ ثلاثٍ وثلاثين ومائتين، بنَيسابور. و(بِشْرٌ) هو: ابن المفضَّل الرَّقاشيُّ الحجَّة، كان يصوم يومًا ويفطرُ يومًا، ويصلِّي كلَّ يومٍ أربعمائة ركعةٍ، مات سنة سبعٍ وثمانين ومائةٍ. و(عَاصِمٌ) هو: ابن محمَّد بن زَيد بن عبد الله بن عمر، وثِّق.
          و(عَاصِمُ بْنُ عَلِيٌّ) هو الواسطيُّ، عنه البخاريُّ، وهو ثقةٌ وإن ضعَّفه ابن مَعينٍ وذكر له ابن عَدِيٍّ أحاديثَ مناكير، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين. و(وَاقِدٌ) هو: ابن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمرَ، ثقةٌ، ووالده زيدٌ.
          الثالث: (الحُثالة): ثَفِلُه ورَدِيْئُه، و((مَرِجت)) بكسر الرَّاء، أي: اختلطت عهودهم ولم يفُوا. وشبَّك الشَّارع ليمثِّل له اختلاطهم.
          الحديث الثاني: حديث أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قال: (إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وشَبَّكَ بين أَصَابِعِهِ. وهذا الحديثُ أخرجه أيضًا في الأدب، ومسلمٌ كذلك، وسفيان المذكور في إسناده هو الثَّوريُّ، وخلَّاد بن يحيى شيخُ البخاريِّ ثقةٌ يغلط قليلًا، مات سنة سبع عشرة ومائتين. وظاهر الحديث الإخبار، ومعناه الأمر وفيه التَّحريض على التعاون.
          الحديث الثالث: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلعم إِحْدَى صَلاَتَيِ العشاء _قَالَ ابن سِيرينَ:_ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، ولكن نَسِيتُ أنَا..) الحديثَ، وفيه: (وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ).
          وسيأتي في سجود السَّهو إن شاء الله [خ¦1229] مكرَّرًا. وطرقه الدَّارقُطْنيُّ وغيره، وأخرجه مسلمٌ والباقون. واختلف العلماء في تشبيك الأصابع في المسجد وفي الصَّلاة، فرُوِيت آثارٌ مرسلةٌ أنَّه صلعم نهى عن ذلك في المسجد مِن مراسيل سعيد بن المسيِّب.
          ومنها: مسندٌ مِن طرقٍ غير ثابتةٍ، كما قال ابن بطَّالٍ، وروى ابن أبي شَيبةَ عن وَكِيعٍ عن عبد الله بن عبد الرَّحمن بن مَوهَبٍ عن عمِّه عن مولى لأبي سعيدٍ، وهو مع رسول الله صلعم، فدخل رسول الله صلعم المسجدَ، فرأى رجلًا جالسًا وسط النَّاس قد شبَّك بين أصابعه يُحدِّث نفسه فأومأ إليه رسولُ الله صلعم فلم يفطن له، فالتفت إلى أبي سعيدٍ، فقال: ((إذا صلَّى أحدكُم فلا يُشبِّكَنَّ بين أصابعِه؛ فإنَّ التَّشبيكَ مِن الشَّيطان، وإنَّ أحدَكُم لا يزالُ في صلاةٍ ما دام في المسجدِ حتَّى يخرُجَ منه)). وهذه الآثار معارِضةٌ لأحاديث الباب، وهي غير مقاومةٍ لها في الصِّحَّة ولا مساويةٍ.
          قلت: وأمَّا ابن حِبَّان فأخرج النَّهي عن التَّشبيك مِن حديث كَعْبٍ، وكذا أخرجه ابن خُزَيمةَ في «صحيحه»، وأخرجه ابن حِبَّانَ أيضًا والحاكمُ في «المستدرَك» مِن حديث أبي هُرَيرةَ وقال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ.
          وكره إبراهيمُ تشبيك الأصابع في الصَّلاة، وهو قول مالكٍ، ورخَّص في ذلك ابن عمرَ وابنه سالمٌ، وكانا يشبِّكان بين أصابعهما في الصَّلاة، ذكرهما ابن أبي شَيبةَ، وكان الحسن البَصريُّ يشبِّك بين أصابعه في المسجد، وقال مالكٌ: إنَّهم ليُنكرون تشبيك الأصابع في المسجد وما به بأسٌ، وإنَّما يُكره في الصَّلاة.