التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وجوب الصلاة في الثياب

          ░2▒ بَابُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ
          ما تُرْجِمَ عليه هو مذهب الثَّلاثة: الشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي حنيفةَ، وعامَّة الفقهاء وأهل الحديث أنَّ ستر العورة شرطٌ في صحَّة الصَّلاة، فرضها ونفلها، وظاهر مذهب مالكٍ كما قال ابنُ رُشْدٍ في «قواعده» بعد أن قال: اتَّفق العلماء على أنَّها فرضٌ بإطلاق أنَّها مِنْ سنن الصَّلاة.
          وعن بعضهم أنَّه شرطٌ عند الذِّكر دون النِّسيان، فإن قُلْتَ: هل يُسْتَدَلُّ للقول الثَّاني بحديث عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ لمَّا تقلَّصت بُرْدَتُه، فقالت امرأةٌ: غَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ.
          قُلْتُ: لا، لأنَّه كان فاقدًا لها، وأيضًا كان ذلك في أوَّل الإسلام، وفي «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث أبي سَعِيدٍ الخدريِّ مرفوعًا: ((لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا المَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ المَرْأَةِ))، ومِنْ حديث المِسْوَرِ أنَّه ◙ قال له: ((ارجِعْ إِلَى ثَوبِكَ فَخُذْهُ، وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً))، وفي «صحيح ابنِ خُزَيْمَةَ» مِنْ حديث عائشةَ مرفوعًا: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ امرَأَةٍ قَدْ حَاضَتْ إِلَّا بِخِمَارٍ))، وهو المراد براوية أبي داودَ: ((صَلَاةَ حَائِضٍ))، والتِّرْمِذِيِّ: ((صَلَاةَ الحَائِضِ))، وسيأتي في «صحيح البخاريِّ» مِنْ حديث أبي سَعِيْدٍ الخدريِّ النَّهي عن الاحتباء في الثَّوب الواحد ليس على فرجه منه شيءٌ [خ¦367].
          ثمَّ قال البخاريُّ: (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31])، وكأنَّه ☼ فهم أنَّ المراد بها الثِّياب، ولذلك ساقه بعد أن بوَّب بذلك، وهو ما رواه البَيْهَقِيُّ عن طاوسٍ، وقال مُجَاهِدٌ فيها: وَارِ عَوْرَتَكَ وَلَو بِعَبَاءَةٍ.
          قال أبو مُحَمَّدِ بنِ حزمٍ: اتَّفقوا على أنَّه ستر العورة.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: أجمع أهل التَّأويل على أنَّها نزلت في الَّذين كانوا يطوفون بالبيت عُراةً؛ ولذلك أمر أن لا يطوف بالبيت عُريانٌ.
          وقال ابنُ رُشْدٍ: مَنْ حَمَلَ {خُذُوا} على النَّدب قال: المراد بذلك الزِّينة الظَّاهرة مِنَ الرِّداء وغيره مِنَ الملابس الَّتي هي زينةٌ، مستدلًّا لذلك بما في الحديث أنَّه ((كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبيِّ صلعم عَاقِدِي أُزُرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهِيْئَةِ الصِّبْيَانِ)).
          ومَنْ يحمله على الوجوب استدلَّ بحديث مسلمٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: ((كَانَتِ المَرْأَةُ تَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانَةً فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيْرُنِي تطوافًا، وتقول:
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَو كُلُّهُ                     وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
          فنزلت الآية السَّالفة))، وفي رواية وَهْبِ بنِ جريرٍ: ((كَانَتِ المَرْأَةُ إِذَا طَافَتْ بِالبَيْتِ تُخْرِجُ صَدْرَهَا وَمَا هُنَاكَ، فأنزلَ اللهُ الآيةَ)). /
          وعند الواحديِّ: كان أناسٌ مِنَ العرب يطوفون بالبيت عراةً، حتَّى إن كانت المرأة لتعلِّق على أسفلها سُيُورًا مثل هذه السُّيور الَّتي تكون على وجه الحُمُر مِنَ الذُّباب وهي تقول: اليوم يبدو، وفي لفظٍ: وعلى فرجها خرقةٌ.
          وقال ابنُ عَبَّاسٍ: المراد بالمسجد المسجد الحرام خَاصَّةً تعظيمًا له، وإنَّ النِّساء يطفْنَ حولَ البيتِ عراةً في الجاهليَّة ليلًا، فإذا أرادته نهارًا استعارت ثيابًا مِنْ ثياب أهل الحرم، فتطوف بها، فأقبلت امرأةٌ ذات جمالٍ، فأبوا أن يعيروها ثوبًا وقالوا: حتَّى ننظر إلى خلقها، فطافت عريانةً وقالت:
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَو كُلُّهُ                     ........................
          وجاء أنَّها ضُبَاعَةُ بنتُ عامرٍ لمَّا أرادت فراق ابنِ جُدْعَانَ تخيَّل أنَّها تتزوَّج بالوليدِ بنِ المغيرةِ، فقال: إن تزوَّجت به تطوفين بالبيت نهارًا عريانةً، ففعلته أسبوعًا.
          وفي «تفسير الثَّعلبِيِّ» أنَّ بني عامرٍ كانوا يطوفون في الجاهليَّة عراةً، الرِّجال نهارًا، والنِّساء ليلًا.
          وفي الآية أقوالٌ أُخر غريبةٌ:
          أحدها: أنَّ الزِّينة: المشط، قاله عَطِيَّةُ وأبو رَوقٍ.
          ثانيها: رفع اليدين في الصَّلاة، قاله القاضي التَّنُّوخِيُّ.
          ثالثها: الصَّلاة بالنَّعلين، ورد في حديثٍ مرفوعٍ مِنْ طريق أبي هريرةَ، لكن وهَّاه العُقَيْلِيُّ، والواجب مِنَ اللِّباس في الصَّلاة ما يستر به العورة وما زاد فحسنٌ.
          ثمَّ قال البخاريُّ: (وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: «يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ»)، قال البخاريُّ: وفي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ.
          هذا الحديث أخرجه أبو داودَ والنَّسَائِيُّ مِنْ حديث عبدِ العزيزِ بنِ مُحَمَّدٍ عن مُوسَى بنِ إبراهيمَ عن سَلَمَةَ بنِ الأكوعِ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي رجلٌ أصيدُ فأصلِّي في القميصِ الواحدِ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، وَأَزُرَّهُ وَلَو بِشَوكَةٍ))، وفي الرِّواية: إنِّي أكونُ في الصَّيدِ وأصلِّي وليسَ عليَّ إلَّا قميصٌ واحدٌ، قَالَ: ((فَزُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا شَوكَةً)).
          ومُوسَى هذا، قال ابنُ القَطَّانِ: إنَّه مُوسَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ التَّيْمِيُّ، وهو منكر الحديث.
          ولعلَّ هذا هو الَّذي أشار إليه البخاريُّ بالنَّظر السَّالف، وقد قال في حقِّه في كتاب «الضُّعفاء»: مُوسَى بنُ إبراهيمَ في حديثه مناكير، لكن أخرجه ابنُ خُزَيْمَةَ في «صحيحه» عن نَصْرِ بنِ عليٍّ عن عبدِ العزيزِ عن مُوسَى بنِ إبراهيمَ، قال: سمعت سَلَمَةَ، وفي روايةٍ: وليسَ عليَّ إلَّا قميصٌ واحدٌ أو جُبَّةٌ واحدةٌ فَأَزُرُّهُ؟ قال: ((نَعَمْ، وَلَو بِشَوكَةٍ)).
          ورواه ابنُ حِبَّانَ أيضًا في «صحيحه» عن إِسْحَاقَ بنِ إبراهيمَ حدَّثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدَّثنا عبدُ العزيزِ بنُ مُحَمَّدٍ عن مُوسَى بنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي رَبِيْعةَ عن سَلَمَةَ بنِ الأكوعِ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ إنِّي أكونُ في الصَّيدِ وليسَ عليَّ إلَّا قميصٌ واحدٌ؟ قَالَ: ((فَازررْهُ وَلَو بِشَوكَةٍ))، ورواه الحاكم أيضًا في «مستدركِه» وقال: هذا حديثٌ مدنيٌّ صحيحٌ.
          قُلْتُ: وظهر بهذه الرِّواية أنَّ مُوسَى هذا غير السَّالف الَّذي ظنَّه ابنُ القَطَّانِ، وفيه ضعفٌ أيضًا، ولكنَّه دون ذاك، وقد قيل: عن مُوسَى بنِ مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ عن أبيه عن سَلَمَةَ ذكره ابنُ بَطَّالٍ في «شرحه»، فهذا اختلافٌ آخر.
          وقوله: (يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) أي يجمع بين طرفيه بشوكةٍ، فيقوم ذلك مقام الأزرار إذا شدَّها، يُقَالُ: زررت له القميص أَزُرُّه _بالضَّمِّ_ زَرًّا إذا شددت أزراره، وأزررت القميص إذا جعلت له أزرارًا.
          وقال ابنُ سِيدَه: الزِّرُّ الَّذي يوضع في القميص، والجمع أزرارٌ وزُرُورٌ، وأَزَرَّ القميص جعل له زِرًّا، وأَزَرَّه: شدَّ عليه أزراره، وقال ابنُ الأعرابيِّ: زَرَّ القميص إذا كان محلولًا فشدَّه، وأَزَرَّه لم يكن له زِرٌّ فجعله له، وزَرَّ الرَّجل: شدَّ زِرَّه، عن اللِّحْيَانِيِّ.
          وفي «الفصيح»: ازرر عليك قميصك وزُرَّه مثلَّث الرَّاء، وأورد البخاريُّ هذا الحديث ليدلَّ على وجوب ستر العورة، إذ لو كان سُنَّةً لَمَا قال له ذلك، ورخَّص مالكٌ في الصَّلاة في القميص محلول الأزرار ليس عليه سراويلٌ ولا رداءٌ، وهو قول الشَّافعيِّ والكوفيِّين وأبي ثَوْرٍ، إلَّا أنَّه إن رأى مِنْ جيبه عورته أعاد الصَّلاة عندهم.
          ثمَّ قال البخاريُّ ☼: (وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ فِيْهِ أَذًى).
          وهذا منه دالٌّ على الاكتفاء بالظَّنِّ فيما يُصَلِّي فيه، لا القطع، وقد روى أبو داودَ بإسنادٍ جَيِّدٍ مِنْ حديث أمِّ حبيبةَ وقد سألها أخوها مُعَاوِيَةُ: هلْ كانَ رسولُ اللهِ صلعم يُصَلٍّي في الثَّوب الَّذي يُجَامِعُ فيهِ؟ فقالت: نعم، إذا لم يَرَ فيه أذًى.
          ثمَّ قال البخاريُّ ☼: (وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلعم أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ).
          يُريد بذلك نداء عليٍّ ☺ في الحجِّ لمَّا أرسله لينبِذ إلى كلِّ ذي عهدٍ عهده، وكأنَّ البخاريَّ أخذ اشتراط ستر العورة في الصَّلاة منه؛ لأنَّه لمَّا كان الطَّواف صلاةً وقد أمر بالسَّتر فالصَّلاة أولى؛ لذا خطر لي في استنباطه كما خطر لي في استنباط ما قبله، ثمَّ رأيت ابنُ المُنَيِّرِ لمَّا ذكر قوله: ومَنْ صلَّى في الثَّوب الَّذي يُجَامِعُ فيه... إلى آخره.
          قال: ذكر فيه حديث أمِّ عَطِيَّةَ: أُمِرنَا أن نُخرِجَ الحُيَّض، وليس فيه ما يدلُّ على الصَّلاة في الثَّوب الَّذي يُجَامِعُ فيه، لكن في أبي داودَ، ثمَّ ذكر حديث أمِّ حبيبةَ السَّالف، وقد علمتَ أنتَ وجه الاستنباط منه، وحديث أمِّ عَطِيَّةَ ذكره لفائدةٍ أخرى سنبديها.