التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا دخل بيتًا يصلى حيث شاء أو حيث أمر ولا يتجسس

          ░45▒ بَابُ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ وَلَا يَتَجَسَّسُ /
          424- سَاقَ بإسنادِه مِنْ حديثِ عِتْبَانَ بنِ مَالِكٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى المَكَانِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلعم، وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ).
          ثمَّ قالَ:
          ░46▒ بَابُ المَسَاجِدِ فِي البُيُوتِ
          (وَصَلَّى البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ: فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً)
          425- ثمَّ ساقَ بإسنادِهِ حديثَ عِتْبَانَ بنِ مالكٍ المذكور مطوَّلًا مِنْ حديث ابنِ شِهَابٍ عن مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيْعِ عنه.
          وهذا الحديث أخرجه البخاريُّ مطوَّلًا ومختصرًا في عدَّة مواضع فوق العشر: هنا، وفي الصَّلاة في باب الرُّخصة في المطر والعلَّة أن يُصَلِّي في رَحْله [خ¦666] [خ¦667]، وفي باب: إذا زار الإمام قومًا فأمَّهم [خ¦686]، وفي باب: يُسلِّم حين يُسَلِّم الإمام [خ¦838]، وفي الباب بعده مَنْ لم يردَّ السَّلام على الإمام واكتفى بتسليم الصَّلاة [خ¦839] [خ¦840].
          وقال في باب: صلاة الضُّحى في الحضر: قاله عِتْبَانُ بنُ مالكٍ عن النَّبيِّ صلعم [خ¦1179].
          وأتى به مطوَّلًا في باب صلاة النَّوافل في جماعةٍ [خ¦1186]، وفي المغازي في غير موضعٍ، منها في باب غزوة بَدْرٍ؛ لشهوده بدرًا، وهو أَنْصَارِيٌّ كما ساقه أيضًا [خ¦4009].
          وفي الأطعمة [خ¦5401] والصُّلح [خ¦2708] والرِّقاق [خ¦6423] واستتابة المرتدِّين [خ¦6938].
          وأخرجه مسلمٌ في الصَّلاة وبعضه في الإيمان مِنْ طريق أَنَسِ بنِ مالكٍ عن عِتْبَانَ، ومِنْ طريق ثابتٍ عن أَنَسٍ عن مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيْعِ عن عِتْبَانَ، فلقيت عِتْبَانَ فحدَّثني به.
          إذا عرفت ذلك؛ فالكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: (عِتْبَانَ) _بكسر العين ويجوز ضمُّها_ ابنُ مالكِ بنِ عَمْرِو بنِ العَجْلَانِ بنِ زيدٍ بنِ غُنْمِ بنِ سَالِمِ بنِ عَوْفِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفِ بنِ الخَزْرَجِ السَّالِمِيِّ، شهد بدرًا، وقيل: ابنُ مالكِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ العَجْلَانِ بنِ عَمْرِو بنِ العَجْلَانِ بنِ زيدِ بنِ سَالِمٍ، مات بالمدينة، في وسط خلافة مُعَاوِيَةَ.
          الثَّاني: تبويب البخاريِّ (إِذَا دَخَلَ بَيْتًا يُصَلِّي)، كذا في أكثر النُّسخ، وفي بعضها: <أَيُصَلِّي> بالهمز، وكأنَّه أحسن؛ لأنَّه ليس في الحديث أنَّه يصلِّي حيث شاء، وإنَّما فيه أنَّه صلَّى حيث أراد عِتْبَانُ، ويُؤيِّده كما قال ابنُ بَطَّالٍ وابنُ التِّيْنِ قوله بعد: (وَلَا يَتَجَسَّسُ)، فكأنَّه قال: إذا دخل بيتًا هل يصلِّي حيث شاء، أو حيث أُمِرَ؛ لأنَّه ◙ استأذنه في موضع الصَّلاة، ولم يصلِّ حيث شاء.
          ويُحْتَمَلُ أن يكون أراد به ما في الحديث في الباب بعده مِنْ ذكرهم لمالكِ بنِ الدُّخْشَنِ وأنَّه منافقٌ، وردَّ الشَّارع عليهم ذلك بقوله: ((أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ)).
          والتَّجسُّس: التَّفتيش عن بواطن الأمور، والبحث عن العورات.
          الثَّالث: قوله أنَّه ◙: (أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ) منزلُه في بني سَالِمِ بنِ عَوْفِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفِ بنِ الخَزْرَجِ، كما قاله ابنُ سَعْدٍ.
          الرَّابع: قوله: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ).
          فيه: إباحة المساجد في البيوت، وأنَّه لا يخرجه عن ملك صاحبه، والتَّبرُّك بمصلَّى الصَّالحين ومساجد الفاضلين، وأنَّ مَنْ دُعِيَ مِنَ الصَّالحين إلى شيءٍ يُتَبَرَّكُ به منه فله أن يُجيب إذا أمن الفتنة مِنَ العجب، وفيه أيضًا: طلب العين في القبلة، وفيه أيضًا: الصَّلاة بالأهل وغيرهم عند الضَّرورات.
          الخامس: قوله: (وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ)، فيه: الائتمام في النَّافلة، وأنَّ صلاة النَّهار مثنًى؛ لقوله: (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ)، قال ابنُ حَبِيْبٍ: لا بأس أن يؤمَّ النَّفر في النَّافلة في صلاة الضُّحى وغيرها، كالرَّجلين والثَّلاثة، وإمَّا أن يكون مشتهرًا جدًّا، ويجتمع له النَّاس فلا، إلَّا أن يكون في قيام رمضانَ؛ لِمَا في ذلك مِنْ سُنَّةِ الصَّحابة.
          وقال ابنُ قُدَامَةَ: يجوز التَّطوُّع في جماعةٍ؛ لأنَّه ◙ صلَّى بحُذَيْفَةَ مرَّةً، وبابنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً، وبأَنَسٍ وأُمِّهِ واليتيمِ، وأمَّ في بيت عِتْبَانَ مرَّةً، وفي ليالي رمضانَ ثلاثًا.
          السَّادس: قوله: (أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ)، وجاء في بعض طرقه: أنَّه لَقِيَهُ، وفي أخرى: أنَّه بعث إليه، فيجوز أنَّه بعث إليه أوَّلًا ثمَّ توجَّه إليه فلَقِيَهُ.
          وقوله: (أَنْكَرْتُ بَصَرِي)، وفي روايةٍ: أنَّه عَمِيَ، وفي أخرى: ضريرُ البَصَرِ، وفي أخرى: أصابني في بَصَرِي بعض الشَّيء، فيجوز أن يكون أراد بالإنكار والإصابة العمى، وهو ذهاب البَصَرِ كلِّه، ويجوز أن يكون ذهب معظمه، وسمَّاه عمًى لقربه منه، ومشاركته إيَّاه في فوات بعض ما كان حاصلًا في حال السَّلامة.
          السَّابع: قوله: (فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا) في الحديث أنَّ الصِّدِّيقَ جاء مع النَّبيِّ صلعم.
          والظَّاهر أنَّه صلَّى خلفه هو وعِتْبَانَ، وفي الطَّبَرَانِيِّ أنَّ عُمَرَ جاء أيضًا معه، وفي أخرى: ((فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلعم ومَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ)).
          وظاهر قوله: (فَصَفَفْنَا) تقدُّم الإمام عليهما، وهو مذهب الجمهور، وخالف ابنُ مَسْعُودٍ فقال: يقف بينهما.
          الثَّامن: قوله: (لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ) كذا جاء في «الصَّحيح»، وفي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طريق أبي بَكْرِ بنِ أَنَسِ بنِ مالكٍ: ((إنِّي لَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ فِي مَسْجِدِكَ)) ولا تنافي بينهما، وصلاته في بيته؛ للتَّبرُّك كما سلف، وليتحقَّق عذره، وإنَّ مثله لا يقدر على الوصول لعماه والسُّيول؛ فأُبِيحَ له التَّخلُّف عن الجماعة.
          قال أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي صُفْرَةَ: ترك السُّنن للمشقَّة رخصةٌ، ومَنْ شاء أن يأخذ بالشِّدَّة أخذ كما خرج الشَّارع يُهَادَى بين رجلين للصَّلاة.
          التَّاسع: قوله: (وَوَدِدْتُ) _هو بكسر الدَّال_ وحكى القَزَّازُ عن الكِسَائِيِّ فتحها، وانفرد بها، ومعناه: تمنَّيت.
          وقوله: (سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ)، فيه: التَّبرُّك بذلك للآية، وفيه: إجابة الفاضل دعوة المفضول، وفيه: الوفاء بالوعد، وإكرامه بالطَّعام وشبهه، واستصحاب الإمام والعالم ونحوهما بعض أصحابه لِمَنْ يعلم أنَّه لا يكره ذلك.
          العاشر: قوله: (فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَأَذِنْتُ لَهُ) فيه: الاستئذان على الرَّجل في منزله، وإن كان صاحبه قد تقدَّم منه استدعاءٌ.
          الحادي عشر: قوله: (فَلَمْ يَجْلِسْ حتَّى دَخَلَ البَيْتَ) كذا وقع في بعض النُّسخ، وفي بعضها: <حِيْنَ>؛ وكلاهما صحيحٌ، كما قال القاضي: وصوَّب / بعضهم الثَّاني، قال عِيَاضٌ: بل الصَّواب الأوَّل كما ثبت في الرِّوايات، ومعناه: لم يجلس في الدَّار ولا غيرها حتَّى دخل البيت، مبادرًا إلى قضاء حاجتي الَّتي طلبتها، وجاء بسببها وهي الصَّلاة في بيتي.
          وهذا خلاف ما فعل في حديث أُمِّ سُلَيْمٍ؛ حيث صلَّى بعد الأكل؛ لأنَّه دُعِيَ إلى الطَّعام هناك فبادر به، وهنا إلى الصَّلاة فبدأ في كلِّ منهما بما دُعِيَ إليه.
          الثَّاني عشر: الخزيرةُ _بخاءٍ معجمةٍ ثمَّ زاي ثمَّ مثنَّاةٍ تحت ثمَّ راءٍ ثمَّ هاءٍ_ وفي موضعٍ آخرَ ((خَزِيْرٍ)) بحذفها، قال ابنُ سِيْدَهْ: هي اللَّحمُ الغابُّ، يُؤْخَذُ فيُقْطَعُ صغارًا ثمَّ يُطْبَخُ بالماءِ والملحِ، فإذا أُمِيتَ طبخًا ذَرَّ عليه الدَّقيق، فعُصِدَ به، ثمَّ أُدِمَ بأيِّ إدامٍ بشيءٍ، ولا تكون الخزيرةُ إلَّا وفيها لحمٌ، وقيل: الخزيرةُ مرقةٌ تُصَفَّى مِنْ بلالة النُّخالة ثمَّ تُطْبَخُ، وقيل: الخزيرةُ، والخزيرُ: الحَسَاءُ مِنَ الدَّسَمِ والدَّقِيْقِ.
          وقال في «المخصَّصِ»: يكون ماءُ اللَّحمِ كثيرًا، فإن لم يكن فيها لحمٌ فهي عَصِيْدَةٌ، وعَنِ الفَارِسِيِّ أكثر هذا الباب على فعيلةٍ لأنَّه في معنى مفعولٍ، وفي «التَّهذيب» عن أبي الهَيْثَمِ: إذا كانت مِنْ دقيقٍ فهي حَرِيْرَةٌ، وإن كانت مِنْ نُخَالَةٍ فهي خَزِيْرَةٌ.
          وفي «الجمهرة»: الخَزِيْرُ دقيقٌ يُلْبَكُ بشحمٍ، كانت العرب تُعَيِّرُ بني مُجَاشِعٍ بأكله، قال: والخزيرةُ السَّخينةُ، وفي «صحيح البخاريِّ» قال النَّضْرُ: الخزيرةُ مِنَ النُّخَالةِ، والحريرةُ أي _بالحاء المهملة_ مِنَ اللَّبن.
          الثَّالث عشر: قوله: (فَثَابَ فِي البَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ) _هو بثاءٍ مثلَّثةٍ ثمَّ ألفٍ ثمَّ باءٍ موحَّدةٍ_ أي اجتمعوا وجاءوا، قاله عِيَاضٌ، وقال ابنُ سِيْدَهْ: ثاب الشَّيء ثَوبًا وثُؤبًا رجع، وثاب جسمه ثوبانًا أقبلَ، والمراد بالدَّار: المحلَّةُ والقبيلةُ، وإنَّما جاءوا لقدوم النَّبيِّ صلعم عليهم.
          الرَّابع عشر: (مَالِكُ بنُ الدُّخَيْشِنِ أَوِ ابنُ الدُّخْشُنِ) _هو بخاءٍ وشينٍ معجمتين_ وهو مالكُ بنُ الدُّخْشُمِ _بضمِّ الدَّال والشِّين_ ويُقَالُ: بالنُّون، ويُقَالُ: دِخْشِنِ بكسر الدَّال والشِّين، ويُقَالُ مُصَغَّرًا، كما في «الكتاب»، ولم يُخْتَلَفْ في شهوده بدرًا كما قاله أبو عُمَرَ وغيره.
          واخْتُلِفَ في شهوده العَقَبَةَ، وهو الَّذي أَسَرَ يوم بَدْرٍ سُهِيْلُ بنُ عَمْرٍو، وقوله: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ)، ذكر أبو عُمَرَ أنَّ قائله عِتْبَانُ بنُ مالكٍ، لكن قد نصَّ الشَّارع على إيمانه باطنًا، وبراءته مِنَ النِّفاق بهذا الحديث، وروى قَتَادَةُ عن أَنَسٍ قال: ذُكِرَ مالكُ بنُ الدُّخْشُمِ عند رسولِ اللهِ صلعم فقال: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي)).
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ولا يصحُّ عنه النِّفاق، وقد ظهر مِنْ حسن إسلامه ما يمنع مِنِ اتهامه.
          الخامس عشر: قوله: (قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)، وفي آخره: (فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ).
          فيه: ردٌّ على غُلَاة المرجِئة القائلين بأنَّه يكفي في الإيمان النُّطق فقط مِنْ غير اعتقادٍ.
          فإن قُلْتَ: كيف يُجْمَعُ بين قوله: (حَرَّمَ عَلَى النَّارِ)، وبين تعذيب الموحِّدين، فالجواب أنَّه قد ذكر في هذا الحديث عن الزُّهْرِيِّ أنَّه قال: نزلت بعد ذلك فرائضٌ وأمورٌ يُرَى أنَّ الأمر انتهى إليها، كما أخرجه مسلمٌ، وعند الطَّبَرَانِيِّ أنَّه مِنْ كلام عِتْبَانَ واعترض ابنُ الجَوْزِيِّ وقال: إنَّه لا يشفي؛ لأنَّ الصَّلوات الخمس فُرضت بمكَّة قبل هذه القضيَّة بمدَّةٍ.
          وظاهر الحديث يقتضي أنَّ مجرد القول يدفع العذاب ولو ترك الصَّلاة، وإنَّما الجواب أنَّ مَنْ قالها مخلصًا فإنَّه لا يترك العمل بالفرائض، إذ إخلاص القول حاملٌ على ردِّ اللَّازم أو أنَّه يُحَرَّمُ عليه خلوده فيها.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: معناه إذا غُفر له وتُقبِّل منه، أو يكون أراد نار الكافرين؛ فإنَّها محرَّمةٌ على المؤمنين، فإنَّها كما قال الدَّاوُدِيُّ: سبعة أدراكٍ، والمنافقون في الدَّرك الأسفل مع إِبْلِيْسَ وابنِ آدَمَ الَّذي قتل أخاه.
          السَّادس عشر: قوله: (سَأَلْتُ الحُصَيْنَ بنَ مُحَمَّدٍ) زعم القَابِسِيُّ وغيره أنَّه بضادٍّ معجمةٍ، ووهِمَ، فإنَّه لا يُعرف بذلك إلَّا حُضَيْنُ بنُ المُنْذِرِ، ومَنْ عداه بالمهملة، وحُصَيْنٌ هذا ذكره ابنُ حِبَّانَ في «ثقاته»، وروى له البخاريُّ ومسلمٌ، وأمَّا ذاك فروى له مسلمٌ.
          السَّابع عشر: قوله: (وَهُوَ مِنْ سَرَاتِهِمْ) أي: رفعائهم، وهو بفتح السِّين.
          الثَّامن عشر: في فوائد الحديث متفرِّقةٌ غير ما سلف، فيه: جواز الكلام بحضرة المصلِّين ما لم يشغلهم، وأنَّه لا بأس بالصَّلاة في موضعٍ معيَّنٍ، والنَّهي عن إيطان موضعٍ مِنَ المسجد يحملُ على الرِّياء والسُّمعة.
          وفيه: الرَّدُّ على مَنْ قال: إذا زار قومًا فلا يؤمَّهم، وقد ترجم البخاريُّ عليه كما أسلفناه إذا زار الإمام قومًا فأمَّهُم [خ¦686]، ولا بأس بإمامة الزَّائر بإذن ربِّ المنزل عند أكثر أهل العلم فيما حكاه أبو البَرَكَاتِ ابنُ تيميةَ.
          قال ابنُ بَطَّالٍ هناك وفيه: رَدٌّ لِمَا رُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قالَ: ((مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ)) رواه وَكِيْعٌ عن أَبَانَ بنِ يزيدَ العَطَّارِ عن بُدَيْلِ بنِ مَيْسَرَةَ عن أبي عَطِيَّةَ عن رجلٍ منهم قال: كان مالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ يأتينا في مصلَّانا هذا؛ فحضرت الصَّلاة فقلنا له: تقدَّم، فقال: لا، لِيتقدَّمْ بعضُكُم حتَّى أُحَدِّثَكُمْ لِمَ لا أتقدَّم، سمعتُ رسولَ اللهِ صلعم يقولُ: ((مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ وَليَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ))، وهذا إسنادٌ ليس بقائمٍ، أبو عَطِيَّةَ مجهولٌ، يَرويه عن مجهولٍ، وصلاتُه ◙ في بيت عِتْبَانَ مخالفٌ له.
          قُلْتُ: الحديث أخرجه أبو داودَ وابنُ مَاجَهْ والتِّرْمِذِيُّ، وقال: حسنٌ، وأسقط أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَه الرَّجُلَ، وقالوا: عن أبي عَطِيَّةَ، قال: ((كَانَ مَالِكُ...)) الحديثَ، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ ذلك على الإعلام بأنَّ صاحبَ الدَّار أولى بالإمامة إلَّا أن يشاء ربُّ الدَّار، فيُقدِّمَ مَن هو أفضل منه استحبابًا، بدليل تقديم عِتْبَانَ في بيته الشَّارعَ.
          وقد قال مالكٌ: يُسْتَحَبُّ لصاحب المنزل إذا حضر فيه مَنْ هو أفضل منه أن يقدِّمَهُ للصَّلاة، ولا خلاف عند العلماء أنَّ صاحب الدَّار أولى منه، وقد رُوِيَ عن أبي مُوسَى / أنَّه أمَّ ابنَ مَسْعُودٍ وحُذَيْفَةَ في داره، وفَعَلَه ابنُ عُمَرَ بمولًى فصلَّى خلفَه، وقال عَطَاءٌ: صاحبُ الدَّار يؤمُّ مَنْ جاءه، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ، قال ابنُ بَطَّالٍ: ولم أجد فيه خلافًا.
          وفيه: أيضًا جواز إمامة الزَّائِرِ المزورَ برضاه، وأنَّ مَنْ عِيْبَ بما يظهر منه لا يكون عَيْبَةً.
          وقد أسلفنا أنَّ مِنْ تراجم البخاريِّ على هذا الحديث بابُ: مَنْ لم يردَّ السَّلام على الإمام، واكتفى بتسليم الصَّلاة [خ¦840]، قال ابنُ بَطَّالٍ: أظنُّ أنَّ البخاريَّ أراد بهذا الباب الرَّدَّ على مَنْ أوجب التَّسليمة الثَّانية، ولا أعلم قال ذلك إلَّا الحَسَنُ بنُ صَالِحٍ، وحكى الأَصْيِلِيُّ في «الدَّلائل» أنَّه قول أحمدَ بنِ حنبلٍ.
          قال ابنُ المُنْذِرِ: وأجمع كلُّ مَنْ يُحْفَظُ عنه العلمُ على أنَّ صلاة مَنِ اقتصر على تسليمةٍ واحدةٍ جائزةٌ. وقال مالكٌ في «المجموعة»: كما يدخل في الصَّلاة بتكبيرةٍ واحدةٍ كذلك يخرج منها بتسليمةٍ واحدةٍ، وعلى ذلك كان الأمر في القديم، وإنَّما حَدَثَتْ تسليمتان مُذْ كان بنو هاشمٍ.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: ووجه الدَّلالة مِنْ حديث عِتْبَانَ أنَّه قال: ((وَسَلَّمْنَا حِيْنَ سَلَّمَ)) فإنَّه يقتضي أقلَّ ما يقع عليه اسم سلامٍ، وذلك تسليمةٌ واحدةٌ، وممَّنْ كان لا يَرُدُّ على الإمام؛ روى جَرِيْرُ بنُ حازمٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه كان إذا سلَّم الإمام قال: السَّلام عليكم، لم يَزِدْ عليها إلَّا أن يسلِّم أحدٌ على يمينه وشماله يَرُدُّ عليه، أخرجه حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ في «مصنَّفه».
          وقال ابنُ المُنْذِرِ: قال عَمَّارُ بنُ أبي عَمَّارٍ: كان مسجد المهاجرين يسلِّمون تسليمةً واحدةً، وكان مسجد الأنصار يسلِّمون تسليمتين؛ فالمهاجرون لم يكونوا يردُّون على الإمام، وفيها قول ثانٍ: روى النَّخَعِيُّ قالَ: لا أعلم عليه بأسًا إنْ رَدَّ وإنْ لم يَرُدَّ.
          وممَّنْ كان يرى أَنْ يردَّ على الإمام، ذكر ابنُ أبي شَيْبَةَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه كان يردُّ السَّلام، وهو قول الشَّعْبِيِّ وسالمٍ وسَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ وعَطَاءٍ، وقال مالكٌ في «المدوَّنةِ»: يسلِّمُ المأموم عن يمينه، ثمَّ يَرُدُّ على الإمام، فإن كان عن يساره أحدٌ ردَّ عليه، وقد كان مِنْ قول مالكٍ في المأموم يسلِّم عن يمينه، ثمَّ عن يساره، ثمَّ يردُّ على الإمام، ومَنْ قال بالرَّدِّ على الإمام تأوَّلَ في ذلك أنَّ الإمام سلَّم عليهم، فلزِمَهُم الرَّدُّ عليه كسائر السَّلام، ومَنْ قال بالتَّسليمتين مِنْ أهل الكوفة يجعلون التَّسليمة الثَّانية رَدًّا على الإمام وهو عندهم سنَّةٌ، والأُولى هي الفريضة الَّتي بها يخرج مِنَ الصَّلاة.
          وفيه أيضًا: التَّنبيه على أهل الفسق والنِّفاق عند السُّلطان، وأنَّ السُّلطان يجب أن يستثبتَ في أمر مَنْ يُذْكَرُ عندَه بفسقٍ ويوجِّهَ له أجملَ الوجوه، وأنَّ الجماعة إذا اجتمعت للصَّلاة، وغاب أحدٌ منهم أن يسألوا عنه، فإن كان له عذرٌ، وإلَّا ظُنَّ به السُّوء، وهو مفسَّرٌ في قوله: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ...)) الحديثَ.