التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التقاضي والملازمة في المسجد

          ░71▒ بَابُ التَّقَاضِي وَالمُلاَزَمَةِ فِي المَسْجِدِ
          457- سَاقَ فيهِ مِنْ حديثِ الزُّهْرِيِّ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَيِ: الشَّطْرَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ).
          هذا الحديث أخرجه البخاريُّ أيضًا في أربعة أبوابٍ:
          أوَّلها: قريبًا في باب: رفع الصَّوت في المساجد، فقال: حدَّثنا أحمدُ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ، ثمَّ ساقه [خ¦471]، وأحمدُ هذا فيه أقوالٌ:
          أحدها: هو ابنُ صَالِحٍ المَصْرِيُّ، قاله ابنُ السَّكَنِ، وقال الحاكمُ: قيل: هو المَصْرِيُّ، وقيل: هو أحمدُ بنُ عِيسَى التَّسْتُرِيُّ، ولا يخلو أن يكون واحدًا منهما، فقد روى عنهما في «الجامع» ونسبهما في مواضع.
          وقال الكَلَابَاذِيُّ: قال لي أبو أحمدَ الحافظُ: أحمدُ عن ابنِ وَهْبٍ في كتاب البخاريِّ هو ابنُ أخي ابنِ وَهْبٍ، قال الحاكمُ: مَنْ قال هذا غلطَ ووهمَ، وقال ابنُ مَنْدَهْ: كلمَّا قال البخاريُّ: أحمدُ عن ابنِ وَهْبٍ، هو ابنُ صالحٍ، وإذا حدَّث عن ابنِ عِيْسَى نسبه، ولم يخرج عن ابنِ أخي ابنِ وَهْبٍ في «الصَّحيح» شيئًا / ويُؤيِّد مَنْ قال أنَّه أحمدُ بنُ صالحٍ رواية أبي داودَ هذا الحديث عن أحمدَ بنِ صالحٍ عن ابنِ وَهْبٍ، ورواه أبو نُعَيْمٍ مِنْ حديث أحمدَ بنِ صالحٍ عنه، ثمَّ قال: رواه البخاريُّ عن أحمدَ بنِ صالحٍ، عن ابنِ وَهْبٍ.
          ثانيها: في الإشارة بالصُّلح، ولفظه: عن كَعْبٍ: ((أنَّه كان له دَيْنٌ على عبدِ اللهِ بنِ أبي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ فلقيه فلزمه حتَّى ارتفعت أصواتهما، فمرَّ بهما النَّبيُّ صلعم...)) الحديثَ [خ¦2418].
          ثالثها: في الملازمة عن يَحْيَى بنِ بُكَيْرٍ عن اللَّيْثِ [خ¦2422]، قال غيره: حدَّثني اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرٌ؛ وعنى بالغير: عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ كاتب اللَّيْثِ.
          رابعها: في الإشخاص، في باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض، وكأنَّه أخذ ذلك مِنْ قوله: (فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا) [خ¦2707] [خ¦2710] فإنَّ ظاهره أنَّ ذلك منه، نعم، ذلك ظاهرٌ في حديث الأَشْعَثِ مع خصمه أنَّه لا يتورَّع، وقد أدخله في الباب معه، وهو ظاهرٌ فيه.
          وأخرجه مسلمٌ في البيوع مقطوعًا بعد أن وصله، فقال: روى اللَّيْثُ قال: حدَّثني جَعْفَرٌ، فذكره، وفي النَّسَائِيُّ: رواه مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّ كَعْبًا، فأرسله.
          وفي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حديث زَمْعَةَ بنِ صالحٍ عن الزُّهْرِيِّ عن ابنِ كَعْبِ بنِ مالكٍ، عن أبيه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم مرَّ به وهو ملازمٌ رجلًا في أوقيتين، فقال له ◙: ((هَكَذَا؟! فَضَعِ الشَّطْرَ))؛ فقالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ، فقالَ: ((أَدِّ إِلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ))، وفيه أيضًا مِنْ حديث ابنِ لَهِيْعَةَ، عن الأَعْرَجِ عن ابنِ كَعْبٍ عن أبيه.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: أبو حَدْرَدٍ اسمه سَلَامَةُ، وقيل: عبدُ، وقيل: أُسَيْدٌ، ذكره ابنُ الجَوْزِيِّ.
          وولده عبدُ اللهِ مدنيٌّ صحابيٌّ على الأصلح، شهد الحديبيةَ فما بعدها، مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين عن إحدى وثمانين سنةً، وفي الصَّحابة حَدْرَدُ بنُ أبي حَدْرَدٍ، وقيل في نسبه كنسب هذا _فيكون أخاه_ بصريٌّ له حديثٌ في أبي داودَ.
          و(كَعْبُ): سلمِيٌّ شاعرٌ، أحد السَّبعين الَّذين شهدوا العقبة، والثَّلاثة الَّذين تيب عليهم، ووهِمَ مَنْ قال: شهد بدرًا، مات بالمدينة بعد الأربعين، أو إحدى وخمسين عن سبع وسبعين، وابنه عبدُ اللهِ قائد أبيه لمَّا عَمِيَ، ثقةٌ تابعيٌّ، مات سنة سبع أو ثمان وتسعين.
          ثانيها: معنى (تَقَاضَى): طالبه بالدَّين وأراد قضاءه.
          و(سِجْفَ) _بكسر السِّين المهملة وفتحها ثمَّ جيمٌ ثمَّ فاءٌ_ وهو السِّتر كما قال ابنُ سِيدَه، وقيل: هو السِّتران المقرونان بينهما فرجةٌ، وكلُّ بابٍ سُتِر بسترين مقرونين فكلُّ شقٍّ منه سِجْفٌ، وقال الطَّبَرِيُّ: الرَّقيق منه يكون في مقدَّم البيت، ولا يسمَّى سِجْفًا إلَّا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين، وقال الدَّاوُدِيُّ: هو الباب.
          ثالثها: قوله: (قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ) كذا في الصَّحيح وفي معجم الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طريق زَمْعَةَ بنِ صالحٍ عن الزُّهْرِيِّ عن ابنِ كَعْبِ بنِ مالكٍ عن أبيه: أنَّه ◙ مرَّ به وهو ملازمٌ رجلًا في أوقيتين، فقال ◙: ((هَكَذَا تَضَعْ عَنْكَ الشَّطْرَ))، فقالَ الرَّجُلُ: نعم يا رسولَ اللهِ، فقال: ((أَدِّ إِلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ))، وظاهر هذه الرِّواية أنَّه قال ذلك للغريم، وفيها تعيين مقدار الدَّين.
          رابعها: فيه: دلالةٌ على إباحة رفع الصَّوت في المسجد ما لم يتفاحش، لعدم الإنكار منه ◙ فإن تفاحش كان ممنوعًا، لأنَّه ◙ نهى عن رفع الأصوات في المسجد، رُوِيَ من طريق جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ وابنِ عُمَرَ وغيرهما، وإن ضعفت، وعن مالكٍ: لا بأس أن يقضي الرَّجل في المسجد رهنًا، فأمَّا بمعنى التِّجارة والصَّرف فلا أحبُّه.
          خامسها: فيه الاعتماد على الإشارة لقوله: (وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيِ: الشَّطْرَ)، وإنَّها بمنزلة الكلام إذا فُهِمَت لدلالتها عليه، فيصحُّ على هذا يمين الأخرس ولعانه وعقوده إذا فُهِمَ عنه ذلك، وهذا الأمر منه ◙ على جهة الإرشاد إلى الصُّلح، وهو صلحٌ على الإقرار المتفق عليه، لأنَّ نزاعهما لم يكن في الدَّين، إنَّما كان في التَّقاضي، وأمَّا الصُّلح على الإنكار فأجازه أبو حنيفةَ ومالكٌ، وهو قول الحَسَنِ، وأبطله الشَّافعيُّ وابنُ أبي ليلى.
          سادسها: فيه الشَّفاعة إلى صاحب الحقِّ، والإصلاح بين الخصوم، وحسن التَّوسُّط بينهم، وقبول الشَّفاعة في غير معصيةٍ.
          سابعها: قوله: (قُمْ فَاقْضِهِ) أمرُ إيجابٍ لأنَّ ربَّ الدَّين لمَّا أطاع بوضع ما أُمِرَ به تعيَّنَ على المديون أن يقوم بما بقي عليه؛ لئلَّا يجتمع على ربِّ الدَّين وضيعةٌ ومطلٌ، وهكذا ينبغي أن يُبَتَّ الأمر بين المتصالحين، فلا يُتْرَك وبينهما علقةٌ ما أمكن.
          ثامنها: فيه أيضًا: إنَّ الحاكم إذا سمع قول الخصمين أن يُشير عليهما بالصُّلح، ويأمرهما به، وإنَّه إذا ثبت عنده عِسر المديون يأمر بالوضيعة؛ لقطع الخصوم، وإصلاح ذات البين.
          تاسعها: قوله: (حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ) كذا هنا، وفي أخرى: ((مَرَّ بِهِمَا))، فيحتمل أنَّه مرَّ بهما أوَّلًا، ثمَّ إنَّ كَعْبًا أشخصه للمحاكمة في المسجد، فهناك نظرٌ إليهما مِنْ سِجْفِ الحُجْرَةِ.