التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب

          ░79▒ بَابٌ
          465- ذَكَرَ فيهِ: (أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلعم خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ المِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمَا وَاحِدٌ حتَّى أَتَى أَهْلَهُ).
          الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ أيضًا في علامات النُّبُوَّةِ متنًا وإسنادًا، وفي منقبة أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ [خ¦3805]، وعَبَّادِ بنِ بِشْرٍ في مناقب الأنصار [خ¦3807]، وقال فيه: وقال مَعْمَرٌ عن ثابتٍ عن أَنَسٍ أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ ورجلًا مِنَ الأنصار، وقال حَمَّادٌ: أخبرنا ثابتٌ عن أَنَسٍ: كان أُسَيْدٌ وعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ عند النَّبيِّ صلعم، وتعليق مَعْمَرٍ أخرجه البَيْهَقِيُّ في «دلائله» مِنْ حديث عبدِ الرَّزَّاقِ عنه، وتعليق حَمَّادٍ هذا وصله النَّسَائِيُّ في «سننه» فقال: حدَّثنا أبو بَكْرِ بنِ نافعٍ عن بَهْزِ بنِ أَسَدٍ عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ أخبرنا ثابتٌ فذكره، وأخرجه البَيْهَقِيُّ في «دلائله» مِنْ حديث يَزِيدَ بنِ هارونَ عن حَمَّادٍ به، وفيه: ((أضاءت لهما عصا أحدهما)).
          ثانيها: الرَّجلان قد عرفتهما، وقال ابنُ التِّيْنِ: هما عَبَّادٌ وعُوَيمُ بنُ سَاعِدَةَ أو أُسَيْدٌ، وجزم ابنُ بَطَّالٍ بأنَّهما عَبَّادٌ وأُسَيْدٌ، وبه جزم ابنُ التِّينِ في باب علامات النُّبُوَّةِ، وهو موافقٌ لما في الباب، وهو شبيهٌ بما ذكره ابنُ عساكرَ وغيره عن قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ أنَّه خرج مِنْ عند رسول الله صلعم وبيده عرجون، / فأضاء العُرجون.
          وفي «دلائل البَيْهَقِيِّ» مِنْ حديث مَيْمُونِ بنِ زيدٍ بنِ أبي عَبْسٍ حدَّثني أبي: أنَّ أبا عَبْسٍ كان يُصَلِّي مع رسول الله صلعم الصَّلوات، ثمَّ يرجع إلى بني حارثةَ، فخرج في ليلةٍ مظلمةٍ مطيرةٍ، فنوَّرت له عصاه حتَّى دخل دار بني حارثةَ، ومِنْ حديث كَثِيْرِ بنِ زيدٍ عن مُحَمَّدِ بنِ حمزةَ بنِ عَمْرِو الأَسْلَمِيِّ عن أبيه قال: ((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فَتَفَرَّقْنَا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَتْ أَصَابِعِي حَتَّى جَمَعُوا عَلَيْهَا ظَهْرَهُمْ وَمَا هَلَكَ مِنْهُمْ، وَإِنَّ أَصَابِعِي لَتُنِيْرُ، وفي لفظٍ: نَفَرَتْ دَوَابُّنَا وَنَحْنُ فِي سَفَرٍ...)) الحديثَ.
          ثالثها: قال ابنُ بَطَّالٍ: إنَّما ذكر البخاريُّ هذا الحديث في أحكام المساجد؛ لأنَّ الرَّجلين كانا مع رسول الله صلعم في موضع جلوسه مع الصَّحابة، فلمَّا كان معه هذان في علمٍ ينشره، أو في صلاةٍ فأكرمهما اللهُ بالنُّورِ في الدُّنيا ببركةِ الشَّارعِ وفضل مسجده وملازمته وذلك آيةٌ للشَّارع وكرامةٌ له، وأنَّه خُصَّ في الآيات بما لم يخصَّ به مَنْ كان معه أن أُعطي أن يُكرم أصحابه بمثل هذا النَّور عند حاجتهم إليه، وذلك مِنْ خرق العادات.
          وذكرَ بعضُهم فيما نقلَه شيخُنا قُطْبُ الدِّينِ في «شرحِه» وتبجَّح به غيره: أنَّه يحتمل أن يكون البخاريُّ أراد بذكر هذا الحديث هنا قول الله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النُّور:35] ثمَّ قال في آخرها: {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النُّور:35] وعَقَّبَها بقولِه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النُّور:36] إلى أن قال: {لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النُّور:38] فكان هذا مِنْ أولئك فهداهما الله بالنُّور في قلوبهم باطنًا ورزقهم إيَّاه ظاهرًا في الظُّلمةِ، لَمَّا أن كانا مِنْ جملةِ مَنْ كانَ في البُيُوتِ الَّتي أَذِنَ اللهُ في رفعِها، جعلَ اللهُ لتمامِ النُّورِ بينَ أيديهما يستضيئان به في ممشاهما مع قولِه: ((بَشِّرِ المَشَّائِيْنَ في الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ بالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ)) فجعلَ الله لهم منه في الدُّنيا ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم.
          رابعها: فيه دلالةٌ ظاهرةٌ لكرامات الأولياء ولا شكَّ فيه.
          خامسها: قال ابن بَطَّالٍ: كان يصلح أن يترجم لهذا الحديث باب قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّور:40] يشيرُ إلى أنَّ الآية عامَّةٌ فيما يحتمل أن يستثبت منها المعنى لاسيَّما وقد ذكر الله النُّور في المشكاة والزُّجاجة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} الآية [النُّور:36].
          فاستُدِلَّ أنَّ الله يجعل لمَنْ يُسَبِّحُ في تلك المساجد نورًا في قلوبهم، ونورًا في جميع أعضائهم، وبين أيديهم، ومِنْ خلفهم في الدُّنيا والآخرة، فلمَّا خرجا مِنْ عند الشَّارع في اللَّيلة المظلمة أراهم بركة نبيِّه وكرامته بما جعل الله لهما مِنَ النُّور بين أيديهما يستضيئان به في ممشاهما مع الحديث السَّالف: ((بَشِّرِ المَشَّائِيْنَ)) إلى آخر ما سلف، ويوقِنا أنَّ كذلك يكون ما وعدهم الله به مِنَ النُّور الَّذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة برهانًا لمُحَمَّدٍ ╕ على صدق ما وُعِد به أهل الإيمان الملازمين البيوت الَّتي أذن الله أن تُرْفَعَ.
          وهذا هو عين الاحتمال السَّالف الَّذي أبداه شيخنا احتمالًا، وذكره آخر بحثًا فقال: ولقائلٍ أن يقول، فذكره.