التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نوم الرجال في المسجد

          ░58▒ بَابُ نَوْمِ الرِّجَالِ فِي المَسْجِدِ
          ذكرَ فيهِ حديثَين مُعَلَّقَين، وثلاثةَ أحاديث مسندةٍ فقالَ:
          وَقَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: عَنْ أَنَسِ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلعم فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ.
          وهذا التَّعليق قد أسلفه مسندًا في كتاب الطَّهارة [خ¦233]، وذكره في المحاربين أيضًا [خ¦6802].
          و(أَبُو قِلَابَةَ) هو عبدُ اللهِ بنُ زيدِ بنِ عَمْرِو الجَرْمِيُّ.
          ثمَّ قالَ: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الفُقَرَاءَ.
          وهذا مختصرٌ مِنْ حديث يأتي إن شاء الله في الصَّلاة في باب: السَّمر مع الأهل والضَّيف [خ¦602].
          و(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هذا هو ابنُ الصِّدِّيقِ ☻.
          440- ثمَّ ساقَ بإسنادِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ: (أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ) وسيأتي إن شاء الله في صلاة اللَّيل وغيره [خ¦1121].
          وقوله: (أَعْزَبُ) هكذا في روايتنا، وفي أخرى: <عَزَبٌ>، ولعلَّه أصوب، فقد أنكر الأولى القَزَّازُ في «جامعه» فقال: ولا يُقَالُ: أَعْزَبُ، وهو مَنْ لا أهل له، ولا زوج لها، وخطَّأ الزَّجَّاجُ ثعلبًا في قوله: امرأةٌ عَزَبَةٌ، وإنَّما هو عزبٌ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ؛ لأنَّه مصدرٌ، وأجاب غيره: بأنَّ مَنْ قاله بالهاء فعلى التَّشبيه بأسماء الصِّفات، وأصل هذه المادة البعد.
          وترجم البخاريُّ أيضًا على هذا الحديث في أواخر الصَّلاة باب: فضل قيام اللَّيل، وذكره مطوَّلًا [خ¦1121]، وفيه: / ((وكُنْتُ غُلَامًا شَابًا، وكُنْتُ أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، وَإِذَا فِيْهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم)) الحديثَ.
          وجعله خَلَفٌ مِنْ مسندِ ابنِ عُمَرَ، وجعل بعضه مِنْ مسند حَفْصَةَ، وأورده الحُمَيْدِيُّ في مسند حَفْصَةَ، وخالفه ابنُ عَسَاكِرَ فجعله أجمع مِنْ مسند ابنِ عُمَرَ، وإنَّما لم يعيِّن مَنْ عرفه مِنْ أهل النَّار لئلَّا يغتابهم إن كانوا مسلمين.
          وقوله فيه: ((نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ)) سببه أنَّ الشَّارع نظر في حاله فلم يره يُغفل شيئًا مِنَ الفرائض، وعلم مبيته في المسجد فذكره بذلك، فلو كان يقوم مِنَ اللَّيل لم يُعْرَضْ عليها، ولم يرها، ثمَّ إنَّه مِنْ تلك الرُّؤيا لم ينم مِنَ اللَّيل إلَّا قليلًا.
          وقوله فيه: ((لَنْ تُرَعْ)) أي: لا روعٌ عليك ولا ضررٌ، وفي «الفضائل» لابنِ زَنْجُويه بإسنادٍ جيدٍ: أنَّه لمَّا ذهب به إلى النَّار لقيه رجلٌ فقال: دعه، إنَّه نِعْمَ الرَّجُلِ لو كان يصلِّي مِنَ اللَّيْلِ؛ فقصَّتها حَفْصَةُ على رسولِ اللهِ صلعم، فقال لها: ((إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ)).
          441- ثمَّ ساقَ البخاريُّ حديثَ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ في نوم عليٍّ في المسجد.
          442- وحديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ... الحديثَ.
          وسيأتي حديث سَهْلٍ في الاستئذان [خ¦6280]، وفضائل عليٍّ [خ¦3703]، وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا في الفضائل.
          وحاصل الباب جواز سُكنى الفقراء في المسجد، وجواز النَّوم فيه لغير الغرباء، وقد اختلف العلماء في ذلك، فممَّنْ رخصَّ في النَّوم فيه ابنُ عُمَرَ، وقال: كنَّا نبيتُ فيهِ ونُقيلُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلعم، وعن ابنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ وعَطَاءٍ وابنِ سِيرِينَ مثله، وهو قول الشَّافعيِّ.
          واخْتُلِفَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، فرُوِيَ عنه أنَّه قالَ: لا تتِّخذُوا المسجدَ مرقدًا، ورُوِيَ عنه أنَّه قالَ: إن كنت تنام فيه لصلاةٍ فلا بأس.
          وقال مالكٌ: لا أحبُّ لِمَنْ له منزلٌ أن يبيت في المسجد، وسَهَّلَ فيه للضَّعيف ولِمَنْ لا منزل له، وهو قول أحمدَ وإِسْحَاقَ، قال مالكٌ: وقد كان أضياف النَّبيِّ صلعم يبيتون في المسجد.
          وكره النَّوم فيه ابنُ مَسْعُودٍ وطَاوُسٌ ومُجَاهِدٌ، وهو قول الأوزاعيِّ، وقول مَنْ أجاز النَّوم فيه للغرباء، وغيرهم أولى لأحاديث الباب، وقد سُئِلَ سَعِيْدُ بنُ المُسَيِّبِ وسُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ عن النَّوم فيه، فقالا: كيف تسألون عنها، وقد كان أهل الصُّفَّة ينامون فيه وهم قومٌ كان مسكنهم المسجد.
          وذكر الطَّبَرِيُّ عن الحَسَنِ قال: رأيت عُثَمَانَ بنَ عَفَّانَ نائمًا فيه ليس حوله أحدٌ وهو أمير المؤمنين.
          قال: وقد نام في المسجد جماعةٌ مِنَ السَّلف، فغير محذورٍ الانتفاع به فيما يحلُّ كالأكل والشُّرب والجلوس وشبه النَّوم مِنَ الأعمال، وقال الحَرْبِيُّ: الصُّفَّة في مسجده موضعٌ مظلَّلٌ يأوي إليه المساكين.
          وفي حديث سَهْلِ بنِ سَعْدٍ فوائدُ:
          الأولى: جواز التَّكنية بغير الولد، فإنَّه ◙ كنَّاه أَبَا تُرَابٍ، وفي البخاريِّ في كتاب الاستئذان: مَا كَانَ لعليٍّ اسمٌ أحبُّ إليهِ مِنْ أبي ترابٍ، وإن كان ليفرح إذا دُعِيَ بها [خ¦6280].
          الثَّانية: مداراة الصِّهر وتسلية أمره مِنْ عناءٍ به.
          الثَّالثة: الممازحة للغاضب بالتَّكنيَّة بغير كنيته إذا كان ذلك لا يُغضبه ولا يَكرهه، بل يؤنسه مِنْ حرجه.
          الرَّابعة: أنَّ الملابس كلَّها يُحاول بها ستر العورة، وأنَّه لا ملبس لِمَنْ بدت عورته.
          الخامسة: القيلولة في المسجد فإنَّه لم يَقِلْ عند فاطمةَ، ونام في المسجد فمعنى (لَمْ يَقِلْ عِنْدِي): لم يَنَمْ وقت القائلة، وهي نوم نصف النَّهار، وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لعليٍّ ☺.