التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كراهية الصلاة في المقابر

          ░52▒ بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ
          432- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا).
          الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه في باب التَّطوُّع في البيت مِنْ أواخر الصَّلاة [خ¦1187]، عن عبدِ الأَعْلَى بنِ حَمَّادٍ حدَّثنا وُهَيْبٌ عن أَيُّوبَ وعُبَيْدِ اللهِ عن نافعٍ به، ثمَّ قالَ: تابعه عبدُ الوَهَّابِ عن أَيُّوبَ، وهذه المتابعة ذكرها مسلمٌ عن ابنِ مُثَنَّى عن عبدِ الوَهَّابِ به.
          ثانيها: معنى الحديث: صلُّوا في بيوتكم ولا تجعلوها كالقبور مهجورةً مِنَ الصَّلاة، واعترض الإِسْمَاعِيْلِيُّ فقال: الحديث دالٌ على النَّهي عن الصَّلاة في القبر لا في المقابر؛ ولا طائل فيما قاله، واعترض ابنُ التِّيْنِ أيضًا فقال: تأوَّل البخاريُّ هذا على المنع منها في المقابر وأُخِذ عليه في هذا التَّأويل، وذلك أنَّ جماعةً تأوَّلوا الحديث على أنَّه ◙ ندب إلى الصَّلاة في البيوت؛ إذ الموتى لا يصلُّون في قبورهم، فقال: لا تكونوا كالموتى الَّذين لا يصلُّون في بيوتهم، وهي القبور، فأمَّا جواز الصَّلاة في المقابر أو المنع منه، فليس في الحديث ما يوجد منه ذلك وبنحوه، ذكره ابنُ المُنَيِّرِ فقال: دلَّ الحديث على الفرق بين البيت والقبر، فأمر بالصَّلاة إلى البيت وأن لا يُجْعَلَ كالمقبرة، فأفهم أنَّ المقبرة ليست بمحلِّ صلاةٍ، وفيه نظرٌ مِنْ حيث أنَّ المراد بقوله: (لَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) لا تكونوا فيها كالأموات في القبور انقطعت عليهم الأعمال وارتفعت التَّكاليف، وهو غير متعرِّضٍ لصلاة الأحياء، في ظواهر / المقابر؛ ولهذا قال: (وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) ولم يقل مقابرَ؛ لأنَّ القبر هو الحفرة الَّتي يُسْتَرُ بها الميِّت، والمقابر اسمٌ للمكان المشتمل على الحفرة وما ضمَّت.
          وقال ابنُ المُنْذِرِ: احتجَّ مَنْ كره الصَّلاة في المقابر بهذا الحديث، فإنَّه دال على أنَّ المقبرة ليست بموضع الصَّلاة، وللعلماء في معنى الحديث قولان:
          أحدهما: أنَّه ورد في صلاة النَّافلة دون الفريضة؛ لأنَّه ◙ قد سنَّ الصَّلوات في جماعةٍ كما هو مقرَّرٌ، وتكون (مِنْ) هنا زائدةٌ، كأنَّه قال: اجعلوا صلاتكم النَّافلة في بيوتكم كقوله: ما جاءني مِنْ أحدٍ، وأنت تريد ما جاءني أحدٌ، وإلى هذا الوجه ذهب البخاريُّ.
          وقد رُوِيَ ما يدلُّ عليه، روى الطَّبَرِيُّ مِنْ حديث عبدِ الرَّحمنِ بنِ سَابِطٍ عن أبيه يرفعه: ((نَوِّرُوا بُيُوْتَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ، وَأَكْثِرُوا فِيْهَا تِلَاوَةَ القُرْآنِ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا كَمَا اتَّخَذَهَا اليَهُودُ والنَّصَارَى، فَإِنَّ البَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيْهِ القُرْآنُ يَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِهِ، وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ، وتَحْضُرُهُ المَلَائِكَةُ، وتُدْحِضُ عَنْهُ الشَّياطِيْنَ، وَإِنَّ البَيْتَ الَّذِي لا يُقْرَأُ فِيْهِ القُرْآنُ يَضِيْقُ عَلَى أَهْلِهِ، وَيَقِلُّ خَيْرُهُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ المَلَائِكَةُ، ويَحْضُرُ فِيْهِ الشَّيْطَانُ)).
          وقد رُوِيَ عن جماعةٍ مِنَ السَّلف أنَّهم كانوا لا يتطوَّعون في المسجد، منهم: حُذَيْفَةُ والسَّائِبُ بنُ يزيدَ والنَّخَعِيُّ والرَّبِيْعُ بنُ خَثْيَمَ وسُوَيْدُ بنُ غَفْلَةَ.
          والثَّاني: أنَّه ورد في صلاة الفريضة، ليقتدي به مَنْ لا يستطيع الخروج إلى المسجد ممَّنْ يلزمه تعليمهم، وتكون (مِنْ) هنا للتَّبعيض، ومَنْ صلَّى في بيته جماعةً فقد أصاب سنَّة الجماعة وفضلها، روى حَمَّادٌ عن إبراهيمَ قال: إذا صلَّى الرَّجُلُ مع الرَّجُلِ فهما جماعةٌ لهما التَّضعيف خمسًا وعشرين درجةً.
          ورُوِيَ أنَّ أحمدَ بنَ حنبلٍ وإِسْحَاقَ وعليَّ بنَ المَدِيْنِيَّ أجمعوا في دار أحمدَ فسمعوا النِّداء، فقال أحدهم: اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمدُ: خروجنا إنَّما هو للجماعة، ونحن في جماعةٍ، فأقاموا الصَّلاة، وصلَّوا في البيت.
          وقد اختلف العلماء في الصَّلاة في المقبرة، فرُوِيَ عن عُمَرَ وعليٍّ وابنِ عَبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ أنَّهم كرهوا الصَّلاة فيها، ورُوِيَ عن عَطَاءٍ والنَّخَعِيِّ، وبه قال أبو حنيفةَ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ، واختُلف فيها عن مالكٍ، فقال مرَّةً: لا أحبُّها، وقال مرَّةً: لا بأس بها.
          وكلُّ مَنْ كره الصَّلاة مِنْ هؤلاء لا يرى على مَنْ صلَّى فيها إعادةً، وقال أحمدُ وأهلُ الظَّاهرِ: لا تجوز الصَّلاة فيها، وقد روى حديثَ: ((الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ))، رواه أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ، وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ، ولا عبرة بما طعن فيه بالإرسال، وانتصر ابنُ حَزْمٍ لذلك، وحديث النَّهي عن الصَّلاة في سبع مواطن، منها هما، ضعَّفه التِّرْمِذِيُّ وغيره.
          وحجَّة مَنْ أجاز عموم الحديث الصَّحيح: ((جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ))، قال مالكٌ: وبلغني أنَّ بعض الصَّحابة كان يصلِّي في المقابر.
          وحكى ابنُ المُنْذِرِ أنَّ واثلةَ بنَ الأَسْقَعِ كان يصلِّي فيها غير أنَّه لا يستتر بقبرٍ، وصلَّى الحَسَنُ البَصْرِيُّ في المقابر.