التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء

          ░1▒ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلاَةُ فِي الإِسْرَاءِ؟
          وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ _فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ_ فَقَالَ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ.
          وهذا التَّعليقُ ساقَه البخاريُّ مسندًا كما سلفَ في الوحي، وتقدَّم هناك الكلامُ عليه واضحًا [خ¦7].
          ثمَّ ساقَ البخاريُّ حديثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أبي ذرٍّ في الإسراءِ بطولِه [خ¦3887]، وقد أخرجه هنا وفي الحجِّ [خ¦1636] وأحاديث الأنبياء وذكْرِ بني إسرائيل [خ¦3342]، وأخرجه مسلمٌ في الإيمان.
          قال الدَّارَقُطْنيُّ: ورواه الزُّهْرِيُّ يعني مَرَّةً عن أُبيٍّ، وأحسبه سقط عليه ذَرٌّ، فجعلَه أُبيَّ بنَ كَعْبٍ، ووَهِمَ فيه، ورواه قَتَادَةُ عن أَنَسٍ عن مالكِ بنِ صَعْصَعَةَ بطوله، وروى بعضَه شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ مرفوعًا قصَّة النَّهرين، ويُشبه أن تكون الأقاويل كلُّها صحاحًا؛ لأنَّ الرُّواةَ أثباتٌ.
          وروى قَتَادَةُ عن أَنَسٍ مرفوعًا: ((فُرِضَ عَلَيَّ الصَّلَاةُ)) وهو صحيحٌ عنه، وقال الحاكمُ في «الإكليل»: حديث المعراج صحَّ سندُه بلا خلافٍ بين الأئمَّة، نقله العدلُ عَنِ العدلِ، ومدارُ الرِّواياتِ الصَّحيحةِ فيه على أَنَسٍ، وقد سمع بعضَه مِنَ النَّبيِّ صلعم، وبعضَه مِنْ أبي ذرٍّ، وبعضَه مِنْ مالكٍ، وبعضَه مِنْ أبي هريرةَ.
          وقال ابنُ الجوزيِّ: روى حديثَ المعراجِ والإسراءِ جماعةٌ منهم عليُّ وابنُ مَسْعُودٍ وأُبَيٌّ وحذيفةُ وأبو سَعِيْدٍ وجابرٌ وأبو هريرةَ وابنُ عَبَّاسٍ وأمُّ هَانِئٍ.
          ثمَّ متى صلَّى رسول الله صلعم؟ روى الحارثُ بنُ أبي أسامةَ في «مسنده» مِنْ حديث أسامةَ عن أبيه زيدٍ: ((أَنَّ جِبْرِيْلَ أَتَى رَسُولَ اللهَ صلعم في أوَّلِ ما أُوحِيَ إليه، فعَلَّمَهُ الوضوءَ والصَّلَاةَ، فلمَّا فَرَغَ مِنَ الوُضُوءِ أخذَ غُرفَةً فنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ))، ورواه ابنُ مَاجَهْ بلفظ: ((عَلَّمَنِي جِبْرِيْلُ الوُضُوءَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْضَحَ تَحْتَ ثَوْبِي)).
          وفي «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديثِ قَتَادَةَ عن زُرَارَةَ: أنَّ سَعْدَ بنَ هِشَامِ بنِ عامرٍ أراد أن يغزو... الحديثَ. وفيه: أنَّه سألَ عائشةَ عن قيامِ رسولِ اللهِ صلعم، فقالت: أَلَسْتَ تَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ}؟ [المُزَّمِّلُ:1] قُلْتُ: بلى، قالت: ((فَإِنَّ اللهَ افتَرَضَ قِيَامَ اللَّيلِ في أَوَّلِ هذه السُّورَة، فقامَ ◙ وأصحابُه حولًا، وأمسكَ اللهُ خاتمتَها اثني عشرَ شهرًا في السَّمَاءِ حتَّى أنزلَ في آخرِها التَّخفِيفَ، فصارَ قيامُ اللَّيلِ تَطَوُّعًا بعدَ فريضةٍ)).
          وذكر الحَرْبِيُّ: أنَّ الصَّلاة قبل الإسراء كانت صلاةً قبل غروب الشَّمس وصلاةً قبل طلوعها، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:54]، ولا خلاف _كما قاله عياضٌ وغيره_ أنَّ خديجةَ صَلَّتْ مع الشَّارع بعد فرض الصَّلاة، وأنَّها تُوُفِّيت قبل الهجرة بمدَّةٍ، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمسٍ، وقيل: بأربعٍ.
          واستشكله بعضهم بأنَّ الزُّبَيْرَ بنَ بَكَّارٍ روى في «أنسابه» مِنْ حديث عائشةَ، قالت: تُوُفِّيَتْ خديجةُ قبل أن تُفْرَضَ الصَّلاة، وأجيب: لعلَّها أرادت قبل فرضها ليلة الإسراء، وعن مُقَاتِلِ بنِ سُلَيْمَانَ: فرضَ اللهُ الصَّلاةَ في أوَّلِ / الإسلامِ ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشيِّ، ثمَّ فرضَ الخمس ليلة المعراج، قُلْتُ: وإلى ذلك الإشارة بقوله ◙: ((مَنْ صَلَّى البَرْدَينِ دَخَلَ الجَنَّةَ)).
          وقد جاء في حديثٍ أنَّه صلَّى عند الزَّوال مِنْ أوَّل النُّبُوَّة، وفي «الصَّحيح» مِنْ حديث عائشةَ: ((فُرِضَتِ الصَّلَاةُ بمَكَّةَ ركعتينِ ركعتينِ، فلمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم فُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ على الأُولَى)) ويأتي، وفي روايةٍ: ((بَعْدَ الهِجْرَةِ بِسَنَةٍ)).
          وقال القَزَّازُ: فُرِضَتْ أوَّلًا ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشيِّ، إلى ليلة الإسراء فُرِضَتْ عليه الخَمْسُ بغير أوقاتٍ، فكان الرَّجل يُصَلِّيها في وقتٍ واحدٍ إن شاء، وإن شاء فرَّقها، ثمَّ لَمَّا هاجرَ صلَّاها بأوقاتٍ ركعتين ركعتين، ثمَّ زِيدَ في صلاة الحضر، وفُرِضَ الوضوء والغسل، ولم أره لغيره.
          وقال أبو عُمَرَ: رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ الصَّلاة فُرِضَتْ في الحضر أربعًا، وفي السَّفر ركعتين، وكذلك قال نافعُ بنُ جُبَيْرٍ والحَسَنُ وهو قول ابنِ جُرَيْجٍ، ورُوِيَ مرفوعًا مِنْ حديث القُشَيْرِيِّ وغيره ما يدلُّ على ذلك.
          وقال أبو مُحَمَّدِ بنِ حزمٍ: لم يأتِ قطُّ أثرٌ _يعني صحيحًا_ أنَّ الوضوءَ كان فرضًا بمكَّةَ، وقام الإجماعُ على أنَّ فرضَ الصَّلاةِ كان ليلةَ الإسراءِ، وفي «مسند أحمد»: ((فُرِضَتْ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ إِلَّا المَغْرِبَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثًا)). وأَوَّلَ أبو عُمَرَ قول عائشةَ: (فُرِضَتْ) تقدَّرت، والفرض لغةً: التَّقدير.
          وزعم السُّهَيْلِيُّ أنَّ الزِّيادة تُسَمَّى نسخًا؛ لأنَّه رفع الحكم، وقد ارتفع، وإنَّما الزِّيادة في العدد حتَّى كَمُلَتْ خمسًا بعد أن كانت اثنتين، فيُسَمَّى نسخًا عند الحنفيَّةِ.
          واختلف العلماء _فيما حكاه الدِّمياطيُّ_ في الإسراء والمعراج هل كانا في ليلةٍ واحدةٍ أو كان المعراج مَرَّةً أو مَرَّاتٍ؟ وهل كان المعراج قبل الإسراء؟ وظاهر إيراد البخاريِّ يدلُّ على اتِّحاد المعراج والإسراء؛ لأنَّه قال أوَّلًا: (كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ في الإسراءِ؟) ثمَّ أورد الحديث وفيه: (ثُمَّ عُرِجَ بي إِلَى السَّمَاءِ).
          قال ابنُ قُتَيْبَةَ: أُسْرِيَ برسول الله صلعم بعد سنةٍ ونصفٍ مِنْ رجوعه _يعني: مِنَ الطَّائف إلى مكَّة_ ثمَّ قال: إنَّ الإسراء والمعراج كانا في ليلةٍ واحدةٍ، قال: أُسْرِيَ برسولِ اللهِ صلعم مِنْ مكَّة إلى بيت المقدس، وعُرِجَ به مِنْ بيتِ المقدسِ إلى السَّماءِ.
          وروى الوَاقِدِيُّ قالَ: كان ◙ يسألُ ربَّه أن يُرِيَه الجنَّة والنَّار، فلمَّا كان ليلة السَّبتِ لسبع عشرةَ ليلة خلت مِنْ رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، ورسولُ اللهِ صلعم نائمٌ في بيته ظُهْرًا أتاه جبريلُ وميكائيلُ وقالا: انطلقْ إلى ما سألتَ، فانطلقَا بِهِ إلى ما بينَ المقامِ وزمزمَ، فأُتِيَ بالمعراجِ، فإذا هو أحسنُ شيءٍ منظرًا، فعرجَا بِهِ إلى السَّمواتِ سماءً سماءً، فلقيَ فيهنَّ الأنبياء، وانتهى إلى سدرةِ المنتهى، ورأى الجنَّةَ والنَّارَ، وفُرِضَ عليه الخمسُ، ونزلَ جبريلُ فصلَّى رَسُولُ اللهِ صلعم الصَّلواتِ في مواقيتِها.
          قال ابنُ فارسٍ: وكان سِنُّهُ إذ ذاك إحدى وخمسين سنةً وتسعة أشهرٍ، وعن الحَرْبِيِّ أنَّ الإسراء كان ليلة سبعٍ وعشرين مِنْ ربيعٍ الآخر قبل الهجرة بسنةٍ، وقيل: في ربيع الأوَّل.
          وذكر القُرْطُبِيُّ أنَّه كان قبلُ في رجبٍ، وبه جزم النَّوَوِيُّ في «الرَّوضةِ» فقال في كتاب السِّير: فرضَ اللهُ تعالى مِنْ قيامِ اللَّيلِ ما ذَكَرَه في أوَّلِ سورةِ المُزَّمِّلِ ثمَّ نسَخَهُ بما في أواخرِها، ثمَّ نسخَه بإيجابِ الصَّلواتِ الخمسِ ليلة الإسراءِ بمكَّةَ بعد النُّبُوَّةِ بعشرِ سنين وثلاثةِ أشهرٍ ليلةَ سبعٍ وعشرين مِنْ رجبٍ، وخالفَ في «فتاويه» فقال: إنَّها ليلةُ السَّابعِ والعشرين مِنْ ربيعِ الأوَّلِ قالَ: وكان الإسراءُ سنةَ خمسٍ أو ستٍّ مِنَ النُّبُوَّةِ، وقيل: غير ذلك، وخالفَ في «شرحِ مسلمٍ» فجزم بأنَّها ليلة السَّابع والعشرين مِنْ ربيع الآخر تبعًا للقاضي عياضٍ، فالله أعلم، وقد قيل: إنَّه كانَ في رمضانَ أيضًا.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها:
          349- معنى (فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي) شُقَّ، وكذا (فَرَجَ عَنْ صَدْرِي) شَقَّ، كما جاء في روايةٍ أخرى، وأخرى: ((شَرَحَ))، وأصله التَّوسعةُ، ومنه شرحَ اللهُ صدرَه، وفي البخاريِّ في كتابِ الحجِّ (ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ) [خ¦1637]، وهو مخفَّفُ الرَّاءِ، ويجوز تشديدُها للمبالغةِ في الشَّقِّ، يعني: أنَّ الملائكةَ لم يدخلوا مِنْ بابٍ بل مِنْ وسطِ السَّقف؛ ليكون أوقع في القلب صِدْقُ ما جاؤوا به، وغُسِلَ لأنَّ الطَّهور شطر الإيمان.
          الثَّاني: الطَّست هو _بسينٍ مهملةٍ_ وهو فارسيٌّ كما نقله الجواليقيُّ عن أبي عُبَيْدٍ.
          وقال الفَرَّاءُ: طَيءٌ تقول: (طَسْتٍ)، وغيرهم يقول: طَسٌّ، وهُم الَّذين يقولون: لَصْتٌ للِّصِّ، وجمعهما طُسُوتٌ ولُصُوتٌ عندهم، وقال ابنُ سِيدَه: الطَّسُّ والطَّسَّه معروفٌ، وجمعُ الطَّسِّ: أطساسٌ وطسوسٌ وطَسِيسٌ، وجمع الطَّسَّه: طِسَاسٌ، ولا يمتنع أن تُجمَعَ طَسَّةٌ على طِسَسٍ بل ذلك قياسه.
          وحكى ابنُ دِحْيَةَ عن الفَرَّاءِ: الطَّسَّة أكثر كلام العرب والطَّسُّ، ولم يُسْمَعْ مِنَ العرب الطَّست، وحكى ابنُ الأنباريِّ: الطَّست _بفتحِ الطَّاءِ وكسرِها_ وحكاهما صاحبُ «المطالعِ» في الطَّسِّ قال: والفتحُ أفصحُ وهي مؤنَّثةٌ، وخُصَّ الطَّست بذلك دون بقيَّة الأواني؛ لأنَّه آلة الغَسل عرفًا.
          الثَّالث: قوله: (مِنْ ذَهَبٍ) ليس فيه ما يوهم استعمال أواني الذَّهب لنا، فإنَّ هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازمٍ أن يكون حكمهم حكمنا، ولأنَّ ذلك كان أوَّل الأمر قبل تحريم استعمال الأواني مِنَ النَّقدين، وإنَّما كان مِنْ ذهبٍ؛ لأنَّه أغلى أواني الجنَّةِ وهو رأسُ الأثمانِ، فالدُّنيا آلة الدِّين فإنَّها مطيَّة الآخرة، وله خواصٌّ، منها: أنَّه لا تأكله النَّار في حال التَّعليق، ولا تأكله الأرض ولا تُغيِّره، وهو أنقى شيءٍ وأصفاه، يُقَالُ في المثل: أنقى مِنَ الذَّهب، وهو أثقل الأشياء، ويُجْعَلُ في الزِّئبق الَّذي هو أثقل الأشياء فيرسب، وهو موافقٌ لثقل الوحي، وعزَّة الذَّهب، وبه يتمُّ الملك ويُنال المطلب، ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين.
          الرَّابع: أخذ السُّهَيْلِيُّ مِنْ هذا جواز تحلية المصحف.
          الخامس: قوله: (مُمْتَلِئٍ) هو على معنى الطَّست _وهو الإناءُ_ لا على لفظها، فإنَّها مؤنَّثةٌ، وقال ابنُ دِحْيَةَ: قد تُؤنَّث؛ لأنَّه يُقَالُ في تصغيرِها طُسَيْسَة.
          السَّادس: إن قُلْتَ: كيف مُلِئَ الطَّسْتُ وليس بجسمٍ؟ قُلْتُ: هذا ضربُ مثلٍ ليكشفِ بالمحسوسِ ما هو معقولٌ، كما نبَّه عليه ابنُ الجوزيِّ، وقال النَّوَوِيُّ: معناه، والله أعلم، أنَّ الطَّست كان فيها شيءٌ يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادةٌ لهما فسُمِّيَ إيمانًا وحكمةً سببًا لهما، قال: والحكمة فيها أقوالٌ كثيرةٌ مضطربةٌ، وقد صفا لنا منها أنَّها: عبارةٌ / عن العلم المتَّصف بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ والعمل به، والصَّدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحكيم مَنْ له ذلك كلُّه.
          وقال ابنُ دُرَيْدٍ: كلُّ كلمةٍ وَعَظَتْكَ أو زَجَرَتْكَ أو دَعَتْكَ إلى مكرمةٍ أو نَهَتْكَ عن قبيحٍ فهي حكمةٌ وحِكَمٌ، وقال صاحب «المطالع»: ما منع مِنَ الجهل، والحاكم هو المانع مِنَ الظُّلم والعداء، وذكر أنَّ الحكمة قيل: هي النُّبُوَّةُ، وقيلَ: الفهمُ عن اللهِ، وقال أيضًا: الحكمة: إشارةٌ إلى الفضل، وقال ابنُ سِيدَه: القرآن وكفى به حكمةً لأنَّ الأَئِمَّةَ صارت به علماء بعد جهالاتٍ.
          السَّابع: فيه: دلالةٌ أنَّ شرح صدره ◙ كان ليلة المعراج، وفُعِلَ به ذلك لزيادة الطُّمأنينة لِمَا يرى مِنْ عظيم الملكوت وصلاته بالملائكة، وفي «سيرةِ ابنِ إِسْحَاقَ» أنَّ هذا الشَّقَّ حين كان مسترضعًا في بني سعدٍ، وذكر عِيَاضٌ والسُّهَيْلِيُّ: أنَّ الشَّقَّ لم يَعرض له إلَّا في الموضع المذكور، وكان مِنَ النَّحر إلى مَرَاق البطن، وهو ما سفل منه، قال أَنَسٌ: كنت أرى أثر المخيط في صدره أي: أثر الإبرة، وفي «دلائلِ أبي نُعَيْمٍ» و «الأحاديث الجياد» للضِّياء مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الواحدِ: أنَّ صدره ◙ شُقَّ وعمره عشر سنينٍ.
          وقال ابنُ أبي صُفْرَةَ في «شرحِ مختصرِ البخاريِّ» _وارتضاه ابنُ دِحْيَةَ_ أنَّه كان مرَّتين، وبه يتَّفق الجمع بين الرِّوايات:
          الأولى: في حال الطُّفوليَّة؛ ليطهر مِنْ كلِّ خُلُقٍ ذميمٍ، وحتَّى لا يكون في قلبه إلَّا التَّوحيد، ولذلك قال ◙: ((فَوَلَّيَا عَنِّي _يعني: المَلَكَينِ_ وَكَأنِّي أُعَايِنُ الأَمْرَ مُعَايَنَةً)).
          الثَّانية: عند الإسراء بعدما نُبِّئَ؛ لتُفرَضَ عليه الصَّلاة ويُصَلِّي بالملائكة، مِنْ شأنِ الصَّلاةِ الطُّهُورُ فقد بُيِّنَ ظاهرًا وباطنًا، وغُسل بماء زمزم، وفي الأُولى بالثَّلج؛ ليثلج اليقين إلى قلبه، وهذه لدخول الحضرة المقدَّسة؛ فلذلك غُسِلَ بهَزْمَة جبريلَ لأبيه إِسْمَاعِيْلَ، وقيل: فُعِلَ به ذلك في حال صغره؛ ليصير قلبه مثل قلوب الأنبياء في الانشراح، والثَّانية ليصير حاله مثل حال الملائكة.
          الثَّامن: معنى: (أَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ) أفرغ الإيمان والحكمة الَّذي في الطَّست، قال ابنُ سَبُعٍ: ولَمَّا فُعِل به ذلك خَتَمَ عليه كما يُختم على الوعاء المملوء، فجمع الله له أجزاء النُّبُوَّة، وختمها، فهو خاتم النَّبيِّين، وختم عليه فلم يجد عدوُّه سبيلًا إليه مِنْ أجل ذلك؛ لأنَّ الشَّيء المختوم محروسٌ.
          وقد جاء أنَّه استخرج منه علقةً، وقال: ((هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ))، وذكر عياضٌ أنَّ موضع الخاتم إنَّما هو شقُّ الملكين بين كتفيه، ووهَّاه القُرْطُبِيُّ، وقال: هذه غفلةٌ؛ لأنَّ الشَّقَّ إنَّما كان في الصَّدر، وأثره خطًّا واضحًا، ولم يبلغ بالشَّقِّ حتَّى نفذ إلى ظهره.
          وروى أبو داودَ الطَّيَالِسِيُّ والبَزَّارُ وغيرهما مِنْ حديث عُرْوَةَ عن أبي ذَرّ _ولم يسمعْ منه_ في حديثِ الملكين: ((قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اغسلْ بَطْنَهُ غسلَ الإِنَاءِ، واغسلْ قَلْبَهُ غسلَ المُلَاءِ، ثمَّ خَاطَ بَطْنِي، وَجَعَلَ الخَاتَمَ بِيْنَ كَتِفَيَّ كَمَا هُوَ الآنَ))، وهو دالٌّ مع حديثِ البخاريِّ لِمَا نبَّه عليه القُرْطُبِيُّ وأنَّه في الصَّدرِ دون الظَّهرِ، وإنَّما كان الخاتم في ظهره؛ ليدلَّ على ختم النُّبُوَّة به وأنَّه لا نبيَّ بعده، وكان تحت نُغْضِ كتفِهِ؛ لأنَّ ذلك الموضع منه يوسوس الشَّيطان.
          فائدةٌ: البداءة بالإفراج ثمَّ بالإفراغ، فيه: إبانة طريق السُّلوك لنا، وانظر إلى استخراج العلقة وقول المَلَكِ: ((هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ)) مع قوله بعدُ: ((إِنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمُ)) بالرَّفع، فيا تُرى كيف حالُ اللَّعينِ معنا؟ نعتصمُ باللهِ منه.
          التَّاسع: معنى (عَرَجَ) صَعَدَ، والعروجُ الصُّعُودُ يُقَالُ: عَرَجَ يعرجُ عروجًا، والمِعراجُ مِفعالٌ _بكسرِ الميمِ_ مِنَ العروجِ أيِ الصُّعُودِ فإنَّه آلةٌ له، وحكى ابنُ سِيدَه الكسرَ والضَّمَّ في يعرجُ، قالَ: ويُقَالُ: عرجَ في الشَّيءِ وعليه رقى، وعرجَ الشَّيءُ وهو عَرِيجٌ ارتفعَ وعلا، والمعراجُ شبهُ سُلَّمٍ تعرجُ عليهِ الأرواحُ، وقيل: هو حيث تصعدُ أعمالُ بني آدم، كذا ذكره بعض شيوخنا في شرحِهِ.
          العاشر: (السَّمَاءِ): تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، قال ابنُ حزمٍ: لم يرها أحدٌ مِنَ البشرِ غير الأنبياءِ وفي «صحيح ابنِ حِبَّانَ» مِنْ حديثِ أبي سَعِيْدٍ مرفوعًا: ((بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ مَسِيْرَةُ خَمْسِ مِئَةٍ))، وفي كتابِ «العظمةِ» لأبي سَعِيْدِ بنِ الأعرابيِّ عن عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ قالَ: ((مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ مَسِيْرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، وبَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ الَّتي تَلِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، ومَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الكُرْسِيِّ كَذَلِكَ، والمَاءُ عَلَى الكُرْسِيِّ، والعَرْشُ عَلَى المَاءِ)).
          وفي كتابِ «العرشِ» تأليف أبي جعفرٍ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ بنِ أبي شَيْبَةَ مِنْ حديثِ العَبَّاسِ مرفوعًا: ((هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيْرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سِنَةٍ، وكنفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُ مِئَةِ سَنَةٍ، وفَوْقَ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ))، ومِنْ حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا مثله.
          وفي أبي داودَ وابنِ مَاجَهْ والتِّرْمِذِيِّ _وقال: حسنٌ غريبٌ_ مِنْ حديثِ العَبَّاسِ: ((إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ إِمَّا واحدةٌ أوِ اثنتانِ أو ثلاثٌ وسبعونَ سنةً، ثمَّ السَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ))، وفي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حديثِ ابنِ عَمْرِو مرفوعًا: ((لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الجُمْجُمَةِ أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ وَهِيَ مَسِيْرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، لبَلَغَتِ الأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ))، ثمَّ قالَ: إسنادُه صحيحٌ.
          فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ حَبِيْبٍ أنَّ بينَ السَّماءِ والأرضِ بحرًا يُسَمَّى البحرُ المكفوفُ، تكونُ بحارُ الأرضِ بالنِّسبة إليه كالقطرةِ بالنِّسبة إلى البحرِ المحيطِ، فعلى هذا يكونُ ذلك البحرُ انفلقَ لنبيِّنا حتَّى جاوزَه، وذلك أعظمُ مِنِ انفلاقِ البحرِ لمُوسَى.
          الحادي عشر: اختلفَ العلماءُ هل أُسرِيَ بروحِه أو بجسدِه الكريمِ على مذاهبٍ:
          أحدها: أنَّ الإسراءَ كانَ بروحِه مِنْ غيرِ أن يُفارقَ شخصُه مضجعَه، وكانت رؤيا رأى فيها الحقائقَ، ورؤيا الأنبياء حقٌّ، وذهبَ إلى هذا مُعَاوِيَةُ وعائشةُ.
          ثانيها: أنَّ الإسراءَ كانَ بالجسدِ إلى بيتِ المقدسِ وإلى السَّماءِ بالرُّوحِ.
          ثالثها: وإليه ذهبَ معظمُ السَّلفِ وعامَّةُ المتأخِّرين مِنَ الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين إلى أنَّه كان إسراءً بالجسد، وفي اليقظة، وأنَّه ركبَ البُراقَ بمكَّةَ ووصلَ إلى بيتِ المقدسِ وصلَّى ثمَّ أُسرِيَ بجسدِه، وذكرَ المُهَلَّبُ بنُ أبي صُفْرَةَ عن طائفةٍ مِنَ العلماءِ، وإليه ذهبَ ابنُ العربيِّ أنَّ الإسراءَ / كانَ مرَّتين إحداهما: في نومِه توطئةً له وتيسيرًا عليه كما كانَ بدوء نبوَّته الرُّؤيا الصَّادقةِ، فجاءه بعد ذلك في اليقظةِ، والثَّانيةُ: بجسدِه، والأحاديثُ الصَّحيحةُ دالَّةٌ على عروجِه بجسدِه يقظةً يدلُّ عليه قوله: (قَالَ جِبْرِيلُ: لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ) فلو لم يكنْ بجسدِه لَمَا استفتحَ.
          وقال ابنُ العربيِّ في «العارضةِ» في قوله: ((تَجَلَّى لِي بِيْتُ المَقْدِسِ)) يحتملُ ثلاثَ معانٍ: أحدها: أن يكون خَلَقَ اللهُ له الإدراكَ، مع البُعدِ المفرط، إذ ليس مِنْ شرطِ الإدراكِ عندَنا وعدمِه قربٌ ولا بُعدٌ، ويحتملُ أن يكونَ اطَّلعَ على مثالِها، وعليه يدلُّ قولُه ◙: ((فَجَلَّى اللهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ عِنْدَ دَارِ أبي جُهَيْمٍ بالبَلَاطِ))، ويحتمل أن يكونَ خلقَ اللهُ له العلمَ بها دون مثالٍ ولا رؤيةٍ.
          الثَّاني عشر: قوله: (فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) سُمِّيَتْ هذه بالدُّنيا، لقربِها مِنْ ساكني الأرض، ورُوِيَ ((سَمَاءِ الدُّنْيَا)) على الإضافةِ.
          الثَّالث عشر: قوله: (قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ) فيه أنَّ للسَّماءِ بَوَّابًا حقيقةً، وحَفَظَةً موكَّلين بها، وإثبات الاستئذان، وأنَّها فُتِحَت لأجله، وذلك مِنْ باب التَّكريم والتَّعظيم.
          الرَّابع عشر: قوله: (جِبْرِيلُ) فيه مِنَ الأدب أنَّ مَنِ استأذنَ يدقُّ البابَ أن يقولَ فلانٌ باسمِه ولا يقولُ: أنا، فقد جاءَ في الحديثِ النَّهيُ عنه؛ ولأنَّه لا فائدة فيه، لأنَّه إذا تعيَّنَ مظهرُه أفادَ وصارَ أعرفُ المعارفِ.
          الخامس عشر: قوله: (أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ) يحتملُ هذا الاستفهامُ وجهين:
          أحدهما: أن يكونَ خفي عليهم إرسالُه لشغلِهم بالعبادةِ حتَّى قيلَ: إنَّ أحدَهم لا يعرفُ مَنْ إلى جانبِه.
          ثانيهما: أن يكون المعنى: أُرْسِلَ إليه للعروجِ إلى السَّماءِ؛ لأنَّ بِعثَتَه استفاضَتْ بينَ الملائكةِ، وهو الأصحُّ.
          السَّادس عشر: (الأَسْوِدَةُ) جمع سَوَادٍ، كقَذَالٍ وأَقذِلَةٍ، وتُجمعُ الأسوِدَةُ أيضًا على أساودَ وفي «المحكمِ»: السَّوادُ والأسوداتُ والأساودُ جماعةٌ مِنَ النَّاسِ وقيل: هم الضُّروبُ المتفرِّقون، والسَّوادُ: الشَّخصُ؛ لأنَّه يُرَى مِنْ بعيدٍ أسود، وصرَّحَ أبو عُبَيْدٍ بأنَّه شخصُ كلُّ شيءٍ مِنْ متاعٍ أو غيره، والجمع أسودةٌ، وأساودُ جمع الجمع.
          السَّابع عشر: النَّسَمُ، والنَّسَمَةُ نفس الرُّوح، وما بها نسمةٌ أي نفسٌ، والجمع: نَسَمٌ، قاله ابنُ سِيدَه، وقال الخَطَّابِيُّ: هي النَّفْسُ، والمراد أرواح بني آدم، وقال ابنُ التِّينِ: ورُوِّيْنَاه: ((نَسِيْمُ بَنِي آدَمَ))، والأوَّلُ أشبهُ.
          الثَّامن عشر: فيه دلالةٌ _كما قال القاضي_ أنَّ نسمَ بني آدمَ مِنْ أهلِ الجنَّةِ والنَّارِ في السَّماءِ، وقد جاءَ أنَّ أرواحَ الكفَّارِ في سِجِّينٍ قِيل: في الأرضِ السَّابعةِ، وقِيل: تحتها، وقِيل: في سجنٍ، ويُقَالُ: إنَّه وادٍ في جهنَّمَ. حكاه ابنُ سِيدَه، وأنَّ أرواح المؤمنين مُنَعَّمَةٌ في الجنَّة، فيحتمل أنَّها تُعرَضُ على آدم أوقاتًا، فوافق وقتُ عرضها مرورَه ◙، ويحتمل أنَّ كونهم في النَّار والجنَّة إنَّما هو في أوقاتٍ دونَ أوقاتٍ، بدليلِ قولِه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، ويحتملُ أن تكونَ الجنَّةُ كانت في جهةِ يمينِ آدمَ، والنَّارُ في جهةِ شمالِه، وكلاهما حيث شاءَ اللهُ، وضحكُه وبكاؤُه شفقةُ الوالدِ على ولدِه، وسرورُه لحُسْنِ حالِه، وحزنُه وبكاؤُه لسوءِ حالِه.
          التَّاسع عشر: (آدَمُ) صلعم كنيته أبو البِشْرِ، وقيل: أبو مُحَمَّدٍ، وروى ابنُ عَسَاكِرَ مِنْ حديث عليٍّ مرفوعًا: ((أَهْلُ الجَنَّةِ لَيْسَ لَهُمْ كِنًى إِلَّا آدَمَ، فَإِنَّهُ يُكنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ))، ومِنْ حديث كَعْبِ الأحبارِ: ((لَيْسَ أَحَدٌ في الجَنَّةِ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا آدَمَ، فَإِنَّ لَهُ لِحْيَةً سَوْدَاءَ إِلَى سُرَّتِهِ؛ وذلكَ لأنَّه لمْ يكنْ لَهُ في الدُّنْيَا لِحْيَةٌ، وإِنَّما كَانَتِ اللِّحَى بعدَ آدَمَ، ولَيْسَ أَحَدٌ في الَجنَّةِ يُكَنَّى إلَّا آدَمَ، ويُكَنَّى في الدُّنْيَا أَبَا البَشَرِ، وفي الجَنَّةِ أَبَا مُحَمَّدٍ)).
          ثمَّ قيل: إنَّ آدَمَ اسمٌ سريانيٌّ، وقيل: مشتقٌّ، وقيل: أَفْعَلُ مِنَ الأُدْمَةِ، وقيل: مِنْ لفظ الأديم؛ لأنَّه خُلِقَ مِنْ أديم الأرض، وقال النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ: سُمِّيَ آدمُ لبياضه، وذكر مُحَمَّدُ بنُ عليٍّ أنَّ الآدَمَ مِنَ الظِّبَاء: الطَّويل القوائم، وفي حديث أبي هريرةَ مرفوعًا: ((خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُوْرَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فكُلُّ مَنْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ عَلَى صُورَتِهِ وطُولِهِ، ووُلِدَ لآدَمَ أربعونَ ولدًا في عشرينَ بَطْنًا)).
          ورُوِيَ أنَّ آدَمَ لمَّا رأى داودَ قال: ياربِّ، ما عمره؟ قال: ستُّون، قال: ربِّ زد في عمره، قال: لا، إلَّا أن تزيدمِنْ عمرك، قال: وما عمري؟ قال: ألف سنةٍ، قال آدَمُ: وهبتُه أربعين سنةً، فعلى هذه الرِّواية عاش آدَمُ ألف سنةٍ إلَّا أربعين عامًا، وقيل: بل أكملَ ألفًا، وقال ابنُ قُتَيْبَةَ: ألف سنةٍ إلَّا سبعين سنةً، ولمَّا أُهبِطَ مِنَ الجنَّة هبط بِسَرَنْديب مِنَ الهند بجبلٍ يُقَالُ له: بُوذ، ولَمَّا حضرته الوفاة اشتهى قطف عنبٍ، فانطلق بنوه ليطلبوه، فلقيتهم الملائكة، فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: إنَّ أبانا اشتهى قطفًا، قالوا: ارجعوا فقد كُفيتموه، فرجعوا فوجدوه قد قُبِضَ، فغسَّلوه وحنَّطوه وكفَّنوه، وصلَّى عليه جبريلُ والملائكة خلفه وبنوه خلفهم، ودفنوه، وقالوا: هذه سُنَّتكم في موتاكم، ودُفِنَ في غارٍ يُقَالُ له: غارُ الكنزِ في أبي قُبَيسٍ، فاستخرجَه نوحٌ في الطُّوفان وأخذَه وجعلَه في تابوتِ سمسارٍ معه في السَّفينةِ، فلمَّا نضبَ الماءُ ردَّه نوحٌ إلى مكانِه.
          العشرون: معنى (مَرْحَبًا) أصبتَ رحبًا وسهلًا فاستأنسْ ولا تستوحشْ، و(الصَّالِحِ) هو القائمُ بحقوقِ اللهِ وحقوق العباد، وخصُّوه بذلك؛ لشموله على سائر الخلال المحمودة الممدوحة مِنَ الصِّدق والأمانة والعفاف والصِّلة والفضل، ولم يقل له أحدٌ: مرحبًا بالنَّبيِّ الصَّادق والأمين؛ لشمول الصَّلاح سائر خلال الخير، ففيه استحباب لقاء أهل الفضل بالبِشْرِ والتَّرحيب والكلام الحسن والدُّعاء لهم، وإن كانوا أفضل مِن الدَّاعي، وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا أُمِنَ عليه الإعجاب وغيرُه مِنْ أسباب الفتنة.
          الحادي بعد العشرين: قوله: (قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَهُ) _يعني أبا ذرٍّ_ أنَّه يعني رسولَ اللهِ صلعم (وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ) يعني: أنَّ أبا ذرٍّ لم يُثبِت (غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ)، وفي الصَّحيحين مِنْ حديث أَنَسٍ عن مالكِ بنِ صَعْصَعَةَ: أنَّه وَجَدَ في السَّمَاءِ الدُّنيَا آدَمَ، كما سلفَ في حديثِ أبي ذرٍّ، وفي الثَّانية يحيى وعِيسَى، وفي الثَّالثة: يُوسُفَ، وفي الرَّابعة: إدريسَ، وفي الخامسة: هارونَ، وفي السَّادسة: مُوسَى، وفي السَّابعة: إبراهيمَ، وهو مخالفٌ لرواية أَنَسٍ عن أبي ذرٍّ أنَّه وجد إبراهيمَ في السَّادسة، وكذا جاء في «صحيح مسلمٍ».
          وأُجيب: بأنَّ الإسراء إن كان مَرَّتين، فيكون رأى إبراهيمَ في إحداهما، في إحدى السَّماءين، ويكون استقراره بها ووطنه، والثَّانية في سماءٍ غير وطنه، وإن كان مَرَّةً فيكون أوَّلًا رآه في السَّادسة، ثمَّ ارتقى معه إلى السَّابعة. /
          الثَّاني بعد العشرين: قال ابنُ الجوزيِّ في «مُشكِلِه»: إن قُلْتَ: كيف رأى الأنبياء في السَّماء ومدفنُهم في الأرض؟ أجاب عنه ابنُ عقيلٍ فقال: شكَّل الله أرواحهم على هيئةِ صورِ أجسادِهم، ومِثْلُه ذكر ابنُ التِّينِ، وقال: وإنَّما تعودُ الأرواحُ _يعني: إلى الأجسادِ_ يومَ البعثِ إلَّا عِيسَى ◙ فإنَّه حيٌّ لم يمتْ وهو ينزلُ إلى الأرضِ.
          قُلْتُ: الأنبياءُ أحياءٌ، فلا بُعدَ أن يراهم حقيقةً، وقد مرَّ على مُوسَى عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام وهو قائمٌ يُصَلِّي في قبرِه ورآه في السَّماء السَّادسة.
          الثَّالث بعد العشرين: (إِدْرِيسُ) سُمِّي بذلك لدرسه الصُّحفَ الثَّلاثين الَّتي أُنزلَتْ عليه فقيل: إنَّه حنوخُ، ويُقَالُ: أحنوخُ، ويُقَالُ: أحنخُ، ويُقَالُ: أهيخُ بنُ يردَ بنِ مهليلَ بنِ قيننَ بنِ يانشَ بنِ شيثَ بنِ آدمَ، قال الجَوَّانِيُّ: أمُّه تُدعَى بَرَّةَ، وحنوخُ سريانيٌّ وتفسيره بالعربيِّ إدريسُ، قال وَهْبٌ: هو جدُّ نوحٍ، قال ابنُ إِسْحَاقَ: وهو أوَّلُ بني آدمَ أُعطِيَ النُّبُوَّة، وفي حديثِ أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بالقَلَمِ إِدْرِيْسُ)).
          وقد قِيل: أنَّه إِلْيَاسُ وأنَّه ليس بجدِّ نوحٍ ولا هو في عمودِ هذا النَّسبِ، ونقله السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابنِ العربيِّ ويستشهدُ بحديثِ الإسراءِ، وهو أنَّه عليه السَّلَامُ: (كُلَّمَا لَقِيَ نبيًّا مِنَ الأنبياءِ في تلكَ اللَّيلةِ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ)، وقالَ في آدَمَ: بـ (الِابنِ الصَّالِحِ)، وكذا قالَ في إبراهيمَ، وقالَ في إِدْرِيْسَ: (وَالأَخِ الصَّالِحِ)، ولو كان في عمودِ نسبِه لقالَ له كما قالَ له إبراهيمُ وأبوه آدمُ ويخاطبُه بالبُنُوَّة ولم يخاطبْه بالأُخُوَّة، وذكرَ بعضُهم أنَّ إدريسَ كان نبيًّا في بني إسرائيلَ، فإن كان كذلك فلا اعتراض.
          وأجاب النَّوَوِيُّ: بأنَّه يحتمل أنَّه قاله تَلَطُّفًا وتَأَدُّبًا، وهو أخٌ وإن كان ابنًا، والأبناء إخوةٌ والمؤمنون إخوةٌ.
          وقال أبو العَبَّاسِ بنُ المُنَيِّرِ: أكثر الطُّرُق على أنَّه خاطبه بالأخِ الصَّالحِ، قال: وقال لي ابنُ أبي الفَضْلِ: صحَّتْ لي طريقٌ أنَّه خاطبَه فيها بالابنِ الصَّالِحِ.
          وقال المَازرِيُّ: ذكر المؤرِّخون أنَّ إدريسَ جدُّ نوحٍ، فإن قام دليلٌ على أنَّ إِدْرِيْسَ أُرْسِلَ لم يصحَّ قول النَّسَّابِين أنَّه قبل نوحٍ؛ لإخبار نبيِّنا ╕ في الحديثِ الصَّحيحِ: ((ائتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ)) وإن لم يقمْ دليلٌ جازَ ما قالَ، وصحَّ أنَّ إِدْرِيْسَ كان نبيًّا ولم يُرْسَلْ.
          قال السُّهَيْلِيُّ: وحديث أبي ذرٍّ الطَّويل يدلُّ على أنَّ آدمَ وإِدْرِيْسَ رسولان، قُلْتُ: أخرجه بطوله ابنُ حِبَّانَ، وكان إِدْرِيْسُ رجلًا طُوالًا أبيض ضخم البطن عريض الصَّدر، وإحدى أذنيه _وقيل: عينيه_ أعظم مِنَ الأخرى، وكان في خدِّه نكتةٌ بيضاء مِنْ غير بَرَصٍ، رُفِعَ إلى السَّماء الرَّابعة، ورآه ◙ فيها، وأوَّل مَنْ خاط الثِّياب ولبسها وكان مَنْ قبله يلبسون الجلود، ورُفِعَ وهو ابن ثلاث مئةٍ وخمسٍ وستِّين سنةً.
          الرَّابع بعد العشرين: (مُوسَى) هو ابنُ عِمْرَانَ بنِ قاهثَ بنِ يصهرَ بنِ لاوى بنِ يعقوبَ، سُمِّي مُوسَى؛ لأنَّه وُجِدَ في ماءٍ وشجرٍ، والماءُ بلغتِهم «مو»، والشَّجر «شا» بالمعجمة، فعُرِّبَ بالمهملةِ، والصَّحيحُ أنَّه وجدَه في السَّماءِ السَّادسةِ، وفي البخاريِّ في كتاب بدءِ الخلقِ في صفته أنَّه جعدٌ آدمُ طوالٌ كأنَّه مِنْ رجالِ شَنُوءَةَ [خ¦3239]، واختلفَ الرُّواةُ هل هو جعدٌ أو سبطٌ؟ وهل هو نحيفٌ أو جسيمٌ؟
          الخامس بعد العشرين: (عِيسَى) هو ابنُ مريمَ عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه وروحٌ منه، رآه في السَّماء مع ابنِ خالته يحيى بنِ زكريَّاءَ، ونعته بأنَّه: رَبْعةٌ أحمر كأنَّما خرج مِنْ ديماسٍ_يعني: حَمَّامًا_ وكان ابنُ عُمَرَ يحلف أنَّه ◙ لم يقله، ووصف بأنَّه آدمُ كأحسن ما رأى مِنْ أُدم الرِّجال، وفي بدء الخلق في البخاريِّ: ورأيت عِيسَى رجلًا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرَّأس [خ¦3239]، قال الدَّاوُدِيُّ: ما أراه بمحفوظٍ؛ لأنَّه في رواية مالكٍ: ((رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ)).
          واختُلِفَ في مدَّةِ حملِه على أقوالٍ: أغربُها ساعةٌ، وقيل: العادةُ، ووضعَتْه عندَ الزَّوالِ وهي بنتُ عشرٍ أو ثلاث عشرة أو خمس عشرة، وكانت حاضَتْ قبله حيضتين، وكلَّم النَّاسَ وهو ابنُ أربعين يومًا، ثمَّ لم يتكلَّمْ بعدها حتَّى بلغَ زمنَ كلامِ الصِّبيان، وكان زاهدًا عابدًا سيَّاحًا يمشي على الماء، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله، وكان قوته يومًا بيوم، وله حواريُّون، وعدَّتهم اثنا عشر رجلًا، كانوا أولاد قصَّارين أو صيَّادين أو ملَّاحين، وكان يقرأ التَّوراة والإنجيل حفظًا، رفعه الله إلى السَّماء، وينزل على المنارة البيضاء شرقيَّ دمشق، ويقتل الدَّجَّال بباب لُدٍّ، وينزل حكمًا عدلًا، ويتزوَّج بعد نزوله ويُولَدُ له، ويُدْفَنُ عند رسول الله صلعم.
          وقد جاء ذلك في حديثٍ مِنْ طريق عائشةَ أخرجَه ابنُ الأَبَّارِ في «صلةِ الصِّلةِ» في بابِ: الأحمدين، واسم عيسى عبرانيٌّ، وقيل: سريانيٌّ.
          السَّادس بعد العشرين: (إِبْرَاهِيمُ) خليلُ الرَّحمنِ ومعناه: أبٌ راحمٌ، وكنيته: أبو الضِّيفان، وسألَ جبريلَ ◙: لِمَ اتَّخَذَنِي رَبِّي خَلِيْلًا؟ قَالَ: إِنَّك تُعطِي النَّاسَ وتَسُدُّ خُلَّتَهُمْ ولا تَسأَلُهُمْ، قيلَ: وُلِدَ بغوطةِ دمشقَ ببرزةَ في جبلِ قاسيونَ، والصَّحيحُ _كما قالَ ابنُ عَسَاكِرَ_ أنَّه وُلِدَ بكُوثَى مِنْ إقليم بابلَ مِنَ العراقِ، وكان بينَه وبينَ نوحٍ عدَّةُ قرونٍ، قيل: وُلِدَ على رأسِ ألفي سنةٍ مِنْ خَلْقِ آدمَ.
          وذكر الطَّبَرِيُّ: أنَّ إبراهيمَ إنَّما نطق بالعبرانيَّة حين عبر النَّهر فارًّا مِنَ النَّمْرُودِ، وقال نَمْرُودُ للَّذين أرسلهم في طلبه: إذا وجدتم فتًى يتكلَّم بالسُّريانيَّة فردُّوه، فلمَّا أدركوا إبراهيمَ استنطقوه، فحوَّل الله لسانه عِبْرَانِيًّا، وذلك حينَ عبرَ النَّهرَ فسُمِّيَت العبرانيَّة بذلك، ودخلَ مصرَ وبها جَبَّارٌ مِنَ الجبابرةِ قيل: اسمه سِنَانُ بنُ علوانَ، أخو الضَّحَّاكِ، وقيل: اسمه عَمْرُو بنُ امرئِ القيسِ بنِ بابلونَ بنِ سبأٍ بنِ يشجبَ بنِ يعربَ وكان على مصرَ وكان مع إبراهيمَ زوجتُه سارةُ فأرادَها الجبَّارُ، وقصَّتُها معه مشهورةٌ، فأخدمَها هاجرَ.
          وبلغ عُمرُ إبراهيمَ مئتي سنةٍ وقيل: تنقصُ خمسةً وعشرين، ودُفِنَ بالأرضِ المقدَّسةِ، وقبرُه معروفٌ بالبلدةِ المعروفةِ بالخليلِ، وكان الوَزَغُ ينفخُ النَّارَ على إبراهيمَ لمَّا أُلْقِيَ في النَّارِ فلذلك أُمِرَ بقتلِه، كما أخرجَ في «الصَّحيح» مِنْ حديث أمِّ شَرِيْكٍ كما سيأتي في الحجِّ [خ¦1831] وغيره [خ¦3307] [خ¦3359]، ووجده النَّبيُّ صلعم في السَّماء مُسنِدًا ظهره إلى البيت المعمور.
          السَّابع بعد العشرين: قوله: (قَالَ ابنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابنُ حَزْمٍ، أَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِيَّ، كَانَا يَقُولاَنِ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ) قال خلفٌ في «أطرافه»: حديثُ أبي حَبَّةَ الأنصاريِّ / في المعراجِ أخرجَه البخاريُّ عَنِ ابنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيثِ وعَنْ عَبْدَانَ عَنِ ابنِ المباركِ وعَنْ أحمدَ بنِ صالحٍ عَنْ عَنْبَسَةَ كلُّهم عَنْ يُونُسَ، وأخرجه مسلمٌ عن حَرْمَلَةَ بنِ يحيى عَنِ ابنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ.
          وروى الطَّبَرَانِيُّ هذه القطعةَ عَنْ هَارُونَ بنِ كَامِلٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ صَالِحٍ عَنِ اللَّيثِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وعَنِ ابنِ السَّرحِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَزِيزٍ عَنْ سَلَامَةَ بنِ رَوْحٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهريِّ، قالَ الدِّمْيَاطِيُّ: وروايةُ أبي بَكْرٍ عَنْ أبي حَبَّةَ منقطعةٌ لأنَّه قُتِلَ يومَ أُحُدٍ كما سيأتي.
          و(ابنُ حَزْمٍ) هو أبو بَكْرِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حزمٍ، نجَّاريٌّ، قاضي المدينةِ زمنَ سُلَيْمَانَ بنِ عبدِ الملكِ وابنِ عمِّه عُمَرَ، مات سنة عشرين ومئةٍ عن أربع وثمانين سنةً، وقُتِلَ أبوه يومَ الحرَّةِ.
          الثَّامن بعد العشرين: أبو حَبَّةَ بالباء، وقيل: بالمثنَّاة تحت، وليس بشيءٍ كما قاله القاضي عياضٌ، وأمَّا صاحب «المطالع» فقال: الأكثر على الثَّاني، وذكره الوَاقِدِيُّ وغيره بالنُّون، وسمُّوه مالكُ بنُ عَمْرٍو، وقِيل: عَامِرٌ، وقِيل: عَمْرٌو، وقِيل: ثَابِتُ بنُ النُّعْمَانِ، وهو بدريٌّ بالاتِّفاق، كما قاله النَّوَوِيُّ، واستُشهد بأُحُدٍ، واختلف أصحاب المغازي في أبي حَبَّةَ الأنصاريِّ وأبي حَبَّةَ البدريِّ، هل هما واحدٌ أو اثنان، وهل هما بالباء أو النُّون؟
          التَّاسع بعد العشرين: معنى (ظَهَرْتُ): علوتُ وارتفعتُ، ومنه قوله: ((وَالشَّمْسُ في حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ)). وقال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التَّوبة:33]، أي: يُعليه على الأديان كلِّها.
          الثَّلاثون: المستوَى _بفتحِ الواوِ_ المصعدُ وهو المكانُ العالي، يُقَالُ: استَوَى إلى الشَّيءِ وعليه إذا علا عليه، وقِيلَ: هو عبارةٌ عن فضاءٍ فيه استواءٌ.
          الحادي بعد الثَّلاثين: (صَرِيفَ الأَقْلاَمِ) _بالصَّادِ المهملةِ_ صوتُ حركتها وجريانها على المخطوط فيه ممَّا تكتبه الملائكة مِنْ أقضية الله تعالى، نَسْخًا مِنَ اللَّوح المحفوظ أو ما شاء الله تعالى مِنْ أمره وتدبيره، ومنه صريف الباب، قال القاضي عياضٌ: قد يكون مستوى حيث يظهر عدل الله وحكمه لعباده هنالك، يُقَالُ للعدل: سوَاءٌ _مفتوحٌ ممدودٌ_ وسوى _مقصورٌ مكسورٌ_ وقيلَ ذلك في قوله تعالى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، وقال بعضهم: صريرٌ _بالرَّاءِ_ هو الأشهرُ في اللُّغة، حكاه عبدُ الغافرِ الفارسيُّ في «مفهمه»، ولا نُسَلِّمُ له.
          الثَّاني بعد الثَّلاثين: فيه دليلٌ على أنَّ الأشياء كالمقادير والوحي وغير ذلك ممَّا شاء الله تُكتَب بالأقلام لا بقلمٍ واحدٍ.
          الثَّالث بعد الثَّلاثين: في هذا حُجَّةٌ لمذهبِ أهل السُّنَّة في الإيمان بصحَّةِ كتابةِ الوحي والمقادير في كتاب الله تعالى مِنَ اللَّوحِ المحفوظِ وما شاء بالأقلام الَّذي هو تعالى يَعلَم كيفيَّتها على ما جاءت به الآيات مِنْ كتاب الله والأحاديث الصَّحيحة، وأنَّ ما جاء مِنْ ذلك على ظاهره، لكن كيفيَّة ذلك وجنسه وصورته ممَّا لا يعلمُه إلَّا اللهُ ومَنْ أطلعَه اللهُ على غيبِه مِنْ ذلك مِنْ مَلَكٍ ورَسُولٍ.
          الرَّابع بعد الثَّلاثين: قوله: (قَالَ ابنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: فَفَرَضَ اللهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً) هو معطوفٌ على الإسناد قبله فيما ذكره أبو نُعَيْمٍ والإِسْمَاعِيْلِيُّ وخَلَفٌ.
          الخامس بعد الثَّلاثين: قوله: (قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) إلى قوله: (فَرَاجَعْتُهُ) المرادُ أنَّ مكان سؤاله غير مكان سؤال مُوسَى ◙، فهو رجوعٌ مِنْ مكانٍ إلى مكانٍ لاستحالةِ المكانِ على مَنْ تفرَّدَ بالإمكانِ.
          السَّادس بعد الثَّلاثين: قوله: (فَوَضَعَ شَطْرَهَا) كذا هنا، وفي رواية مالكِ بنِ صَعْصَعَةَ: ((فَوَضَعَ في كِلِّ مَرَّةٍ عَشْرًا، وفي الخَامِسَةِ فأَمَرَ بِخَمْسٍ))، وفي حديثٍ آخرَ: ((كُلَّمَا عَادَ وَضَعَ خَمْسًا))، والشَّطرُ هنا: الجزءُ كما قاله عياضٌ وغيرُه لا النِّصفُ، فحطَّ في مِرَّاتٍ بمراجعاتٍ، وهذا الحديثُ مختصرٌ لم يذكر فيه كَرَّات المراجعة.
          السَّابع بعد الثَّلاثين: اختُلِفَ في هذا النَّقص مِنَ الفريضة، هل هو نسخٌ أم لا؟ على قولين:
          أحدهما: أنَّه نسخٌ للعبادة قبل العمل بها، وأنكره النَّحَّاسُ؛ لأنَّ مذهبه أنَّ العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها، لأنَّ ذلك عنده مِنَ البداء، وهو محالٌ على الله، ولأنَّه نسخٌ قبل الوصول إلى المكلَّفين، قال: وإنَّما ادَّعى النَّسخ في ذلك القَاشَانِيُّ ليصحِّح بذلك مذهبه؛ أنَّ البيان لا يتأخَّر، وإنَّما هي شفاعةٌ شفعها لأمَّته.
          ووهَّى قوله السُّهَيْلِيُّ قال: بل هو نسخٌ للتَّبليغ وليس ببداءٍ، والشَّفاعة لا تُنافي النَّسخ، فإنَّ النَّسخ قد يكون عن سببٍ معلومٍ، فشفاعته كانت سببًا للنَّسخ لا مبطلةً لحقيقته، والمنسوخ حكم التَّبليغ الواجب عليه قبل النَّسخ. وأمَّا أمَّته فلا نسخ في حقِّهم؛ لعدم وصوله إليهم، ثمَّ هذا خبرٌ فلا يدخله نسخٌ، فأخبر الرَّبُّ تعالى أنَّ على أمَّته خمسين صلاةً، ومعناه أنَّها في اللَّوح المحفوظ خمسون، فأوَّلَها ◙ على أنَّها خمسون بالفعل، فتبيَّن أنَّها في الثَّواب لا في العمل.
          فإن قُلْتَ: فما معنى نقصها عشرًا بعد عشرٍ؟ فالجواب: أنَّه ليس كلُّ الخلق يحضر قلبه في الصَّلاة مِنْ أوَّلها إلى آخرها، وقد جاء أنَّه يُكتَبُ له ما حضر قلبه منها، وأنَّه يُصَلِّي فيُكتَب له نصفها، ربعها، حتَّى انتهى إلى عُشرها ووقف، فهي خمسٌ في حقِّ مَنْ يُكتَب له عُشرها، وعَشرٌ في حقِّ من كُتِب له أكثر مِنْ ذلك، وخمسون في حقِّ مَنْ كمُلَت صلاته بما يلزمه مِنْ تمام خشوعها، وكمال سجودها وركوعها، نبَّه عليه السُّهَيْلِيُّ.
          وفي كتاب الحكيم التِّرمذيِّ: قال الله تعالى: ((قَدْ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِيْنَ صَلَاةً يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وهُمْ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى قِيْلَ: خَمْسٌ بِخَمْسِيْنَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا عَزِيْمَةٌ مِنْ رَبِّي ╡))، وللنَّسَائِيِّ معناه مِنْ حديث أَنَسٍ.
          الثَّامن بعد الثَّلاثين: إنَّما اعتنى مُوسَى ◙ بهذه الأمَّة، وألحَّ على نبيِّها أن يشفع لها، ويسأل التَّخفيف عنها؛ لأنَّه ◙ _والله أعلم_ حين قُضِيَ إليه بالجانب الغربيِّ، ورأى صفات أمَّة مُحَمَّدٍ في الألواح جعل يقول: ((إنِّي أَجِدُ في الأَلْوَاحِ أُمَّةً صِفَتُهُمْ كذا، اللهُمَّ اجعَلْهُمْ أُمَّتِي، فيُقَالُ لَهُ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، حَتَّى قَالَ: اجعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ))، وهو حديثٌ مشهورٌ في التَّفسير، فكان إشفاقه عليهم، واعتناؤه بأمرهم كما يعتني بالقوم مَنْ هو منهم، وكانت أمَّة مُوسَى كُلِّفَتْ مِنَ الصَّلاة ما لم يُكَلَّفْ غيرها، فثقلت عليهم، فخاف على أمَّة مُحَمَّدٍ مثل ذلك.
          التَّاسع بعد الثَّلاثين: السِّدرُ شجرُ النَّبْقِ، واحدتُها (سِدْرَةِ)، وجمعُها سِدَرٌ وسُدُورٌ، الأخيرة نادرةٌ، ويُجمع في القليلِ على سِدَرَاتٍ وسِدْرَاتٍ كما ذكرَ أبو حنيفةَ، ويجوزُ سِدِرَاتٌ بكسرِ الدَّالِ أيضًا، ذكره النَّوَوِيُّ قال: وكذلك تُجمع كِسْرَةٌ وما أشبهها، قال أبو حنيفةَ: وأجود نَبْقٍ يُعلَمُ / بأرض العرب بهجر.
          فإن قُلْتَ: لِمَ اختِيرَتِ السِّدرة لهذا الأمرِ دون غيرها مِنَ الشَّجرِ؟ قِيل: لأنَّ السِّدرةَ تختصُّ بثلاثةِ أوصافٍ: ظلٌّ مديدٌ، وطعامٌ لذيذٌ، ورائحةٌ ذكيَّةٌ، فشابهت الإيمان الَّذي يَجمع قولًا ونِيَّةً وعملًا، فظلُّها مِنَ الإيمانِ بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمُها بمنزلة النِيَّةِ لكُمُونِه، ورائحتُها بمنزلة القول لظُهوره.
          الأربعون: (سِدْرَةِ المُنْتَهَى) فوق السَّماء السَّابعة، وقال الخليلُ: في السَّابعة، قد أظلَّت السَّماوات والجنَّة. وجاء في روايةٍ أنَّها في السَّماء السَّادسة، والأوَّل عليه الأكثرون، وهو الَّذي يقتضيه المعنى، ويحتمل أن يُجمع بينها، فيكون أصلها في السَّادسة، ومُعْظَمُها في السَّابعة يَخرج مِنْ أصلها أربعةُ أنهارٍ: نهران باطنان وهما السَّلسبيلُ والكوثرُ، ونهران ظاهران وهما النِّيلُ والفراتُ.
          وذكرَ عياضٌ أنَّ أصلَ سدرةِ المنتهى في الأرضِ لخروجِ النِّيلِ والفراتِ مِنْ أصلِها واعْتُرِضَ عليه: بأنَّه لا يلزمُ ذلك، بل معناه أنَّ الأنهارَ تَخرُجُ مِنْ أصلِها، ثمَّ تَسِيرُ حيثُ أرادَ اللهُ تعالى حتَّى تخرجَ مِنَ الأرضِ وتسيرَ فيها وهو ظاهرُ الحديثِ، وعن ابنِ عبَّاسٍ أنَّها عن يمين العرش، وقال صاحب «المطالع»: إنَّها أسفل العرش لا يُجاوزها مَلَكٌ ولا نَبيٌّ، وفي الأثرِ: إليها ينتهي ما يعرجُ مِنَ الأرضِ وما ينزلُ مِنَ السَّماءِ فيفيضُ منها.
          وقِيل لها: (سِدْرَةِ المُنْتَهَى) لانتهاءِ ما يخرج مِنْ تحتها وما أُهبط مِنْ فوقها، وقال كَعْبٌ: لأنَّه ينتهي إليها علمُ كلِّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ونَبيٍّ مرسلٍ، قالَ: وما خَلْفَها غيبٌ لا يعلمُه إلَّا الله، وقيل: تنتهي إليها أرواح الشُّهداء، وقيل: لأنَّ روح المؤمن تنتهي به إليها، فتُصَلِّي عليه هنالك الملائكة المقرَّبون، قاله ابنُ سَلَامٍ في تفسير: {عِلِّيِّينَ}.
          وفي «مسندِ الحارثِ بنِ أبي أسامةَ»: ((لَوُ غُطِّيَتْ بِوَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا هَذِهِ الأُمَّةُ لغطَّتهم))، وجاء أنَّ ورقَها كآذانِ الفيلةِ، ونَبْقَها كَقِلال هجر.
          الحادي بعد الأربعين: قوله: (وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ؟) أي: أصنافٌ مِنَ النُّورِ ومِنَ الملائكةِ.
          وقوله: (ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ) فيه ما قد يدلُّ على أنَّ السِّدرةَ ليست في الجنَّةِ، وقال ابنُ دِحْيَةَ: (ثُمَّ) في هذا الحديث في مواضع ليست للتَّرتيب كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد:17]، إنَّما هي مثلُ الواوِ للجمعِ والاشتراكِ، فهي بذلك خارجةٌ عن أصلِها.
          الثَّاني بعد الأربعين: قوله: (فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ) هكذا الرِّواية هنا بحاءٍ مهملةٍ ثمَّ باءٍ موحَّدةٍ ثمَّ ألفٍ ثمَّ ياءٍ مثنَّاةٍ تحتُ ثمَّ لامٍ، وذكره البخاريُّ في كتابِ الأنبياءِ: ((جَنَابِذُ)) بجيمٍ ثمَّ نونٍ ثمَّ ألفٍ ثمَّ باءٍ موحَّدةٍ ثمَّ ذالٍ معجمةٍ [خ¦3342]، كما وقعَ في مسلمٍ على الصَّواب، جمعُ جُنبُذَةٍ، وهو ما ارتفعَ مِنَ البناءِ كما سيأتي.
          قال ابنُ التِّينِ: قِيل: إنَّ الغلطَ في (حَبَايِل) إنَّما جاءَ مِنْ قِبَلِ اللَّيثِ عن يُونُسَ، وهو تصحيفٌ، والجَنَابِذُ شبهُ القِبابِ، وقال يَعْقُوبُ: هو ما ارتفعَ مِنَ البناءِ، وقد وقعَ هذا المعنى مُفَسَّرًا بالقِباب مِنْ رواية مُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ: ((فَإِذَا هُوَ بنهرٍ بِجَنْبَتَيْهِ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ))، وقال ابنُ الأثيرِ: إن صحَّتْ روايةُ (حَبَايِلُ) فيكون أراد به مواضعَ مرتفعةً كحبالِ الرَّملِ، كأنَّه جمعُ حِبالةٍ، وحِبالةٌ جمعُ حَبْلٍ على غيرِ قياسٍ.
          وفي روايةِ الأَصِيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ((دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيْهَا جَنَابِذَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وتُرَابُهَا المِسْكُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا يا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: للمُؤَذِّنِينَ والأَئِمَّةِ مِنْ أُمَّتِكَ))، وقال صاحبُ «المطالعِ»: كذا لجميعهم في البخاريِّ: (حَبَايِلُ)، ومَنْ ذهب إلى صحَّة الرِّواية قال: إنَّ الحَبَايلَ: القلائدُ والعقودُ، أو يكون مِنْ حبالِ الرَّملِ، أي فيها اللُّؤلؤ كحبالِ الرَّملِ أو مِنَ الحُبلةِ وهو ضربٌ مِنَ الحُلِيِّ معروفٌ قال: وهذا كلُّه تَحَيُّلٌ ضعيفٌ، بل هو بلا شكٍّ تصحيفٌ مِنَ الكاتبِ، والحبايلُ إنَّما تكونُ جمع حِبَالَةٍ أو حبيلةٍ.
          وقال ابنُ الجوزيِّ في «كشفِ المشكلِ»: جنابذُ اللُّؤلؤ قِبابه، واحدها جنبذةٌ: وهي القُبَّةُ، قال: وقد وقعَ في بعضِ النُّسخِ: (حَبَايِلُ) بالحاء المهملة، وفي نسخةٍ بالمعجمة، وكلُّه تصحيفٌ، والصَّحيحُ: ((جَنَابِذُ))، قال ابنُ دِحْيَةَ في «الابتهاجِ»: فهي كلمةٌ فارسيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ.
          واعلمْ أنَّ الأئمَّةَ ♥ اعتنوا بالإسراءِ وأفردُوه بالتَّأليفِ منهم: أبو شَامَةَ وابنُ المُنَيِّرِ في مُجَلَّدٍ ضخمٍ، وابنُ دِحْيَةَ، فَلنُلَخِّص مِنْ كلامِهم فوائدَ:
          الأولى: لا بُدَّ لك عند مرورك بهذا الحديث بطرقه عندما يتصَّورُ فيه وهمُك مِنِ استحضارِ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} [الشُّورى:11]، وتنفي الجهةَ والجسميَّةَ والتَّكَلُّمَ بحرفٍ أو صوتٍ تعالى اللهُ عن ذلك، وفَوِّضْ علمَ ذلك إلى الرَّبِّ جلَّ جلاله، أو أَوِّلْهُ على ما يليق به مع التَّنزيه، فالحُجُبُ للمخلوقِ لا للخالقِ، وحي ربَّك قدسه هناك واجعلِ العرشَ قبلتَكَ في المناجاةِ تَعَبُّدًا، وما أحسن قوله ◙: ((لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى أَخِي يُونُسَ)) فإنَّه نهيٌ عن تفضيلٍ مُقَيَّدٍ بالمكان لا مطلَقِه، وقال مالكٌ: خُصَّ به للتَّنبيهِ على التَّنزيهِ لأنَّ نبيَّنا رُفِعَ إلى العرشِ، ويُونُسَ هُبِطَ إلى قاموسِ البحرِ، ونسبتُهما مِنْ حيث الجهةِ إلى الحقِّ واحدةٌ، وإلَّا فنبيُّنا أقربُ منه.
          الثَّانية: الباء في قوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] تفيد المصاحبة بالألطاف والعناية والإسعاف، وقد قال ◙: ((أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ))، ولذلك يظهر الفرق بين قوله: لله عليَّ أن أحجَّ بفلانٍ أو أحجَّ فلانًا، وانظر إلى هذا مع قوله تعالى: {يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ} [يونس:22]، يظهر لك خصوصيَّةٌ للحقِّ دون عمومِ الخلقِ.
          الثَّالثة: كان الإسراء ليلًا لوجوهٍ:
          أحدها: أنَّه وقتُ الخلوةِ والاختصاصِ ومجالسة الملوكِ وهو أشرفُ مِنْ مجالستِهم نهارًا، فهو وقتُ تَناجي الأحبَّةِ، ووقتُ مجيء الطَّيفِ وهو الخيالُ، فخُصَّ بوصفِ الكمالِ.
          ثانيها: أنَّ اللهَ أكرمَ قومًا مِنْ أنبيائِه بأنواعِ الكراماتِ ليلًا، قالَ تعالى في قصَّةِ إبراهيمَ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76]، فوجودُها دالٌّ على وجوبِ وجودِ صانعِها ومدبِّرها، وقال تعالى في قصَّةِ لوطٍ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود:81]، وقالَ: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، وقال في يعقوبَ: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98]، أخَّرَ دعاءَه إلى وقتِ السَّحَرِ مِنْ ليلةِ الجمعةِ، وقرَّبَ مُوسَى نجيًّا ليلًا، وذلك قولُه: {إِذْ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص:29] وواعدَه أربعين ليلةً، وقال لَمَّا أمرَه بالخروجِ مِنْ مصرَ ببني إسرائيلَ: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدُّخان:23].
          ثالثها: أنَّ اللهَ تعالى أكرمَه ليلًا بأمورٍ منها انشقاقُ القمرِ وإيمانُ الجنِّ به، ورأى الصَّحابةُ آثارَ نيرانِهم على ما ثبت في «صحيحِ مسلمٍ» وخرجَ إلى الغارِ ليلًا على مِئَةٍ مِنْ قريشٍ على بابه ينتظرونه ليقتلوه بزعمهم، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الأنفال:3].
          رابعها: أنَّ اللهَ تعالى قدَّم ذكره / على النَّهار في غير ما آيةٍ، فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ} [الإسراء:12]، وقوله: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]، أي بل له حدٌّ محدودٌ إذا ذهب سلطانُه جاء سلطان النَّهار، وليلة النَّحر تُغني عن الوقوف نهارًا على الصَّحيح؛ لحديث عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسٍ الصَّحيح.
          خامسها: أنَّ اللَّيلَ كالأصلِ، ولهذا كانَ أوَّلَ الشُّهورِ، ومِنْ آياتِه أنَّ سوادَه يجمعُ منتشر ضوءِ البصرِ، ويحدُّ كليل النَّظرِ ويُستلذُّ فيه بالسَّمرِ واجتلاءِ وجه القمرِ وفيه تخلو الأحبابُ بالأحبابِ ويتَّصلُ الوصلُ بينهم ما انقطعَ مِنَ الأسبابِ.
          سادسها: أنَّه لا ليلٌ إلَّا ومعه نهارٌ، وقد يكونُ نهارٌ بلا ليلٍ، وهو يومُ القيامةِ الَّذي مقداره خمسون ألف سنةً.
          سابعها: أنَّ اللَّيلَ محلُّ استجابةِ الدُّعاءِ والغفرانِ والعطاءِ، وإنْ ورد الحديث: ((خَيْرُ يومٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمِ الجُمُعَةِ)) فذلك بالنِّسبة إلى الأيَّامِ، فليلةُ القدرِ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ، وقد دخلَ في هذه اللَّيلة أربعة آلاف جمعةٍ بالحسابِ الجمليِّ، فتأمَّل هذا الفضلَ الخفيَّ.
          ثامنها: أنَّ أكثرَ أسفاره ◙ كان ليلًا، ومِنْ ذلك حديثُ الوادي وأَمَرَ أمَّتَه بسيرِه فقالَ: ((عَلَيْكُمْ بالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الأَرْضَ تُطوَى باللَّيْلِ)).
          تاسعها: لينفي عنه ما ادَّعته النَّصارى في عِيسَى ابنِ مريمَ لمَّا رُفِعَ نهارًا، وادَّعوا فيه البُنُوَّة تعالى اللهُ عن ذلك.
          عاشرها: لأنَّه وقتُ الاجتهاد للعبادة منه صلعم، فقد قام حتَّى تورَّمت قدماه، وكان قيام اللَّيل في حقِّه واجبًا، وقال في حقِّه: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المُزَّمِّل:1-2] فلمَّا كانت عبادتُه ليلًا أكثر أُكْرِمَ بالإسراء فيه، وأمره بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} الآية [الإسراء:79].
          الحادي عشر: ليكون أجر المتصدِّق به أكثر ليدخل فيمَنْ آمن بالغيب دون مَنْ عاينه نهارًا، وفيه إبطالٌ للثَّنويَّة أنَّ الظُّلمةَ شأنُها الإهانةُ والشَّرُّ، والنُّورُ مِنْ شأنِه الإكرامُ والخيرُ.
          الرَّابعة: إن قُلْتَ: قد قَرَّرتَ سرَّ الاسراءِ ليلًا، وضدُّ ذلك إغراقُ فرعونَ نهارًا وإبرازُ جثَّته، ولاشكَّ أنَّ ظهورَ الآياتِ نهارًا أظهرُ، قُلْتُ: ذا في حقِّه إهانةٌ، وذاك في حقِّ نبيِّنا كرامةٌ، وشتَّان ما بينهما.
          الخامسة: كان الإسراء في حقِّ نبيِّنا على وجه المفاجأة، والتَّكليم في حقِّ مُوسَى عن ميعادٍ وموافاةٍ، دلَّ على الأوَّل: ((بِيْنَا أَنَا)) و((فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي)) فحُمِلَ عنه أَلَمُ الانتظار كما حُمِلَ عنه أَلَمُ الاعتذار، فشتَّان ما بين المقامين، وكم بين مُرِيدٍ ومُرَادٍ، وبين مَنْ كُلِّمَ على الطُّور، وبين مَنْ دُعِيَ إلى أعلى أعالي البيت المعمور، وبين مَنْ سُخِّرَتْ له الرِّيح مسيرة شهرٍ بمسألته، وبين مَنِ ارتقى مِنَ الفرشِ إلى العرشِ في ساعةٍ زمانيِّةٍ وأقلُّ مسافته آلافٌ لمكالمته، وأمَّا مِنَ المستوى إلى الرُّفوف فذاك لا يُحْصَى أمدُه ولا يُسْتَقْصَى.
          السَّادسة: ثبتَ بالتَّواترِ أنَّه ◙ عُرِجَ به على دَابَّةٍ يُقَالُ لها: البُرَاقُ، ووصف خلقتها؛ وسُمِّيَ بُرَاقًا لسرعةِ سيرِه تشبيهًا ببرقِ السَّحابِ، وعُرِجَ به عليه إظهارًا لكرامته؛ لكرامةِ الرَّاكبِ على غيره، ولذلك لم ينزلْ عنه على ما جاء في حديث حُذَيْفَةَ: ما زَايَلَ ظَهْرَ البُرَاقِ حَتَّى رَجَعَ، وإِنَّما لم يُذْكَرْ في الرُّجُوعِ للعلمِ به لقرينةِ الصُّعُودِ.
          ويتعلَّقُ بالبُرَاقِ مسائلَ:
          إحداها: جاء أنَّ البُرَاقَ استصعب له وما ذاك إلَّا تيهًا وزهوًّا بركوبه، وقول جبريلَ: ((أَبِمُحَمَّدٍ تَستَصعِبُ؟!)) تحقيقُ الحالِ، وقد ارفضَّ عرقًا مِنْ تيهِ الجمالِ، وقد قيل: إنَّه ركبَه الأنبياءُ قبلَه أيضًا، وقيلَ: إنَّ جبريلَ ركبَ معه.
          ثانيها: رفعَه على البُرَاقِ للتَّأنيسِ بالمعتادِ، وإلَّا فالرَّبُّ تعالى قادرٌ على رفعِه في أقلَّ مِنْ طرفةِ عينٍ، فإنَّه مطلوبٌ مرادٌ.
          ثالثها: كان البُرَاقُ كشكلِ البَغْلِ لأنَّ الرُّكوبَ في سِلْمٍ وأَمْنٍ لا في حربٍ وخوفٍ ولإسراعِها عادةً، وركبَ ◙ بَغْلَتَه في الحربِ في قصَّةِ حُنَينٍ لتحقيقِ ثُبُوتِه في مواطنِ الحربِ، وإلَّا فركوبُها موضعُ الأمنِ والطُّمأنينةِ، فالحربُ عندَه كالسِّلْمِ، وركوبُ الملائكةِ في الحربِ الخيلَ لأنَّها المعهودةُ فيها وما لَطُفَ مِنَ البِغَالِ واستدارَ أحمدُ وأحسنُ بخلافِ الخيلِ، وكانت بَغْلَتُه بيضاءَ أي شهباءَ، وكذا كان البُرَاقُ.
          السَّابعة: قد سلفَ في الوجهِ العشرين اختلافُ الرِّواياتِ في ترتيبِ الأنبياءِ في السَّماواتِ، فمنهم مَنْ توقَّف عن الخوض في سرِّ ذلك، ومنهم مَنْ باح به، ثمَّ اختلفوا، فمنهم مَنْ قال: إنَّما اختصَّ مِن اختصَّ منهم بلقاء الرَّسول ◙ على عُرْفِ النَّاس إذا تلقَّوا الغائبَ مبتدِرين له، فلا بُدَّ غالبًا أن يسبق بعضُهم بعضًا، ويُصادف بعضُهم اللِّقَاءَ ولا يُصادفه بعضُهم، وهذه طريقة ابنِ بَطَّالٍ.
          وذهب غيره مِنْ شيوخ الأندلس إلى أنَّ ذلك تنبيهٌ على الحالة الخاصَّة بهؤلاء الأنبياء ‰، وتمثيلٌ لِمَا سيتَّفق للرَّسول ◙ ممَّا اتَّفق لهم ممَّا قَصَّهُ الله عنهم في كتابه، وهذا يرجع إلى فنِّ التَّعبير، فمَنْ رأى في منامه نبيًّا مِنَ الأنبياء كان ذلك دليلًا على حالةٍ عُرِفَتْ بذلك النَّبيِّ ينال الرَّائي أو أهل زمانه منها طرفًا.
          قال: فآدَمُ ◙ تنبيهٌ على الهجرة؛ لأنَّ آدَمَ خرج مِنَ الجنَّة بعداوةِ إبليسَ له وتحيُّله على ذلك، فنظيرُه خروج الرَّسول ◙ مِنْ مكَّة بأذى قومه له وللمسلمين.
          وعِيسَى ويحيى دليلٌ على ما سيلقاه الرَّسول ◙ مِنْ أذى اليهود؛ لأنَّهم قتلوا يحيى، وراموا قتل عِيسَى فرفعه الله إليه، وكذلك فعلت اليهود برسول الله صلعم، داروا حول قتله حتَّى سمُّوا له الشَّاة، وأكل منها، فأخبرتْه الكتف بما صنعوا، وأقرَّت المرأة بذلك، وعفا عنها ◙، وقال في مرض موته: ((مَا زَالَتْ أَكلةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي)).
          ويُوسُفُ ◙ دليلٌ على ظَفَرِه ◙ بقومه، وإحسانِه إليهم، وقد ظفر بطائفةٍ مِنْ أهله في غزوة بدرٍ كالعَبَّاسِ عمِّه وعَقِيلٍ ابنِ عمِّه، وذلك قبل أن يُسلما، فعفا عنهما، وفداهما، وقال يوم فتح مكَّة لمَّا عفا عن قريشٍ: ((أقول كما قال أخي يُوسُفَ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ})) [يوسف:92]، ونظير ذلك حال يُوسُفَ مع إخوته.
          وهارونُ ◙ دليلٌ على أنَّ قومه سيحبُّونه، وينقلب بغضاؤهم ودادًا، وكذلك صنع الله لنبيِّه، وقد كان هارونُ ◙ مُحَبَّبًا إلى بني إسرائيلَ، وكانوا يؤثرونه على مُوسَى عليه السَّلام.
          قال: وإدريسُ دليلٌ ما اتَّفق مِنْ كتاب الرَّسول ◙ إلى الآفاق؛ فإنَّ إِدْرِيْسَ كان يخطُّ، وهو أوَّل مَنْ كتب بالقلم.
          ونظيرُ حال مُوسَى ◙ فيما آل إليه أمره مِنْ لقاء / الجبابرة، وإخراجهم مِن الأرض المقدَّسة، حالُ الرَّسول صلعم في فتح مكَّة وقهره للمستهزئين المتكبِّرين مِنْ قريشٍ.
          ونظيرُ حال إبراهيمَ ◙ في إسناده ظهره إلى البيت المعمور، حالُ الرَّسول ◙ في حجَّة البيت، واختتام عُمُرِه بذلك، نظيرُ لقاء إبراهيم آخر السَّموات، ولا بأس بذلك، ولكن يحتاج إلى تنبيهاتٍ: منها: إجراؤه لذكر التَّعبير، فإنَّ ذلك يُوهم أنَّ قصَّة الإسراء كانت منامًا، وقد صحَّحنا أنَّها يقظةٌ، والَّذي يرفع الإشكال أنَّ الفأل في اليقظة نظيرُ الأحلام، وقد كان ◙ يحبُّ الفأل الحسن، وهذا القدر كافٍ لئلَّا يخرج إلى حدِّ السَّآمة، وحينئذٍ نرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: