التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق

          ░29▒ بَابُ قِبْلَةِ أَهْلِ المَدِيْنَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالمَشْرِقِ
          قَالَ البخاريُّ ☼: وليس في المشرق ولا في المغرب قبلةٌ لقول النَّبيِّ صلعم: (لَا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا).
          394- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَزِيْدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا)).
          قالَ أبو أَيُّوبَ: فَقَدِمنا الشَّام فَوَجَدنا مراحيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فننحرفُ ونستغفرُ اللهَ تعالى.
          وعن الزُّهْرِيِّ عن عَطَاءٍ: سمعتُ أَبَا أَيُّوبَ عن النَّبيِّ صلعم مِثْلَهُ.
          هذا الحديث سلف في كتاب الطَّهارة بمذاهب العلماء في استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول [خ¦144]، والمراد بأهل المشرق العراق، وليس أنَّهم يحادون لمشرق مكَّة إذ لو كانوا كذلك كانوا إذا شرَّقوا عند قضاء حاجتهم يستدبرون القِبْلَةِ، وإذا غرَّبوا يستقبلونها، وكذا على هذا لو كانوا في قطر مكَّة مِنَ الغرب كان تشريقهم مستقبليها، وفي تغريبهم مستدبريها.
          وقوله: (وَلَيْسَ فِي المَشْرِقِ وَلَا فِي المَغْرِبِ قِبْلَةٌ) يُرِيدُ أنَّ قبلة هؤلاء المسلمين ليست في الشَّرق منهم ولا في الغرب، بدليل أنَّ النَّبيَّ أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق منهم والمغرب بقوله: ((وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا)) وقد أنكر بعضهم على البخاريِّ تبويبه وتأوَّله بأَنْ قال تقدير التَّرجمة: بابُ قِبْلَةِ أهلِ المدينةِ وأهلِ الشَّام، والمغرب ليس في التَّشريق ولا في التَّغريب، يعني أنَّهم عند الانحراف للتَّشريق والتَّغريب ليسوا مواجهين إلى القِبْلَةِ ولا مستدبرين لها.
          وقالَ ابنُ بَطَّالٍ: تقدير التَّرجمة بابُ: قِبْلَةِ أهلِ المدينةِ وأهلِ الشَّام، والمشرق والمغرب ليس في التَّشريق ولا في التَّغريب، وهذا صحيحٌ في لغة العرب معروفٌ عندهم، يعني أنَّهم عند الانحراف للتَّشريق والتَّغريب ليسوا مواجهين للقِبْلَةِ ولا مستدبرين لها.
          قال: وقوله: (بَابُ قِبْلَةِ أَهْلِ المَدِيْنَةِ...) إلى آخره، يعني وقِبْلَةُ مشرق الأرض كلِّها إلَّا ما قابل مكَّة مِنَ البلاد الَّتي تكون تحت الخطِّ المارِّ عليها مِنَ المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلِّها كحكم مشرق أهل المدينة والشَّام في الأمر بالانحراف عند الغائط، لأنَّهم كانوا إذا شرَّقوا أو غرَّبوا لم يستقبلوا القِبْلَةَ ولم يستدبروها، وهؤلاء أُمِرُوا بالتَّشريق والتَّغريب واستعمال هذا الحديث، وأمَّا ما قابل مشرق مكَّة مِنَ البلاد الَّتي تكون تحت الخطِّ المارِّ عليها مِنْ مشرقها إلى مغربها فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث ولا أن يغرِّبوا، لأنَّهم إذا شرَّقوا استدبروا القِبْلَةَ، وإذا غرَّبوا استقبلوها، وكذلك مَنْ كان موازيًّا لمغرب مكَّة، إنَّ غرَّب استدبر القِبْلَةَ وإنَّ شرَّق استقبلها، وإنَّما ينحرف إلى الجنوب أو الشِّمال، فهذا هو تغريبه و تشريقه.
          ولم يذكر البخاريُّ مغرب الأرض كلِّها، إذ العِلَّةُ فيها مشتركةٌ مع المشرق، فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب، لأنَّ المشرق أكبر الأرض المعمورة، وبلاد الإسلام في جهة مغرب الشَّمس قليلٌ.
          قُلْتُ: وصحَّ في «جامعِ التِّرْمِذِيِّ» مِنْ حديث أبي هريرةَ ( قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ)) ثمَّ قال: حسنٌ صحيحٌ، وصحَّ ذلك عن عُمَرَ موقوفًا عليه، وقد أسلفنا في الطَّهارة (وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) [خ¦144] أنَّه خطابٌ لأهل المدينة، ومَنْ في معناهم كأهل الشَّام واليمن وغيرهم ممَّنْ قِبْلَتُهُ على هذا السَّمت، فأمَّا مَنْ كانت قِبْلَتُهُ مِنْ جهة المشرق أو المغرب فإنَّه يتيامن أو يتشاءم فليُؤَوَّل أيضًا هذا الحديث على ذلك.
          وقول أبي أَيُّوبَ: (بُنِيَتْ قَبْلَ القِبْلَةِ) يعني فيما مضى، وبناؤها قبله مجرَّد مصادفةٍ لا قصدًا.
          وقوله: (وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ) لعلَّه لم يبلغه حديث ابنِ عُمَرَ في ذلك، أو لم يره مخصّصًا، وحمل ما وراءه على العموم، وهذا الاستغفار لنفسه لا للباني على هذه الهيئة.